على الرَّغم من أنّها القضية الأبرز والأهم في البلاد منذ انفراد الرئيس التونسي قيس سعيد بالحكم في 25 يوليو/تموز 2021، إلّا أنّ السلطات القضائية التونسية ارتأت أن تكون جلسة المحاكمة عن بُعد، من دون حضور المتهمين. قرارٌ أثار جدلًا كبيرًا وعزّز المخاوف بشأن ضرب أسُس المحاكمة العادلة، وأشعل الشكوك حول مدى صلابة الملف برمّته وما إذا كان يصبّ في إطار ضرب المعارضة وإضعافها لا غير.
بدأت قضية "التآمر على أمن الدولة"، في فبراير/شباط 2023، حين تمّ تنفيذ أكبر حملة اعتقالات، داهمت خلالها قوات الأمن التونسية منازل عشرات السياسيين ورجال الأعمال، وبعض المسؤولين السابقين في الدولة، ومسؤولين في مؤسسات إعلامية، من أجل تهم تتعلّق بـ"تكوين وفاق بغاية التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي". وتوالت الاتهامات بعد ذلك لتتضمّن قضايا عديدة أخرى معروضة على دوائر مكافحة الإرهاب والفساد من بينها إجراء اتصالات تُعتبر مشبوهة بديبلوماسيين.
في الثاني من مايو/أيار 2023، قررت دائرة الاتهام المختصّة بالنّظر في قضايا الإرهاب في محكمة الاستئناف بتونس إحالة 40 متهمًا في قضية "التآمر على أمن الدولة" إلى الدائرة الجنائية المختصة بالنّظر في قضايا الإرهاب، ورفضت جميع مطالب الإفراج عن الموقوفين حتى بعد انقضاء آجال الإيقاف التحفّظي التي أقرّها المشرّع التونسي بمدة لا تتجاوز 14 شهرًا.
في هذه الأثناء، تتمسّك هيئة الدفاع عن المتهمين بقولها إنّ قضيّة "التآمر على أمن الدولة" تمّت إثارتها على خلفية لقاءات جمعت المعارضين المعنيين من أجل البحث عن حلول على علاقة بالأزمة السياسية بالبلاد ولا صحة لما تمّت إثارته من تهم، إذْ صرّحت دليلة مصدق إحدى محاميات الدفاع، بأنّ المتهمين التقوا قاضي التحقيق مرّة واحدة طيلة سنتيْن من الإيقاف، وارتبطت الأسئلة الموجّهة إليهم بهوياتهم وعملهم والعلاقات بينهم، ولم يوجّه إليهم أيّ فعل مجرم أو طلب للرّدّ على أقوال الشهود.
ومن أبرز المتهمين، رئيس الحزب الجمهوري عصام الشابي، والقيادي السابق في حزب النهضة الإسلامي عبد الحميد الجلاصي، والناشط السياسي خيام التركي، والحقوقية شيماء عيسى، ورجل الأعمال كمال اللطيف، والنائبة السابقة والناشطة النسوية بشرى بلحاج حميدة، الموجودة في فرنسا.
منذ الإعلان عن القضية لم يتوقّف الجدل، نظرًا لأهمّية الشخصيات المتهمة فيها وخطورة الاتهامات الموجّهة إليهم والتي تصل عقوبتها حدّ الإعدام، ونظرًا لكيفية تعاطي السلطة القضائية مع الملف منذ البداية. ففي يونيو/حزيران 2023، تمّ منع التداول الإعلامي بالقضية في قرارٍ أثار شكوكًا كبيرةً حول شفافية المسار القضائي، وأظهر توجّهًا رسميًّا لفرض سياسة التعتيم طيلة التحقيق على ملف تقول السلطات إنّه يتضمّن أدلّة تهدّد أمن الدولة وتحيل إلى أعمال إرهابية. وقد اعتُبرت هذه الخطوة على نطاق واسع بمثابة السعي لمنع الرأي العام من التعرّف إلى حيثيّات القضية وأثارت المخاوف من أن يتم تكييف القضية، خصوصًا أنّ أغلب المتهمين هم معارضو السلطة الحالية، إلى جانب تزامنها مع توالي القضايا المُثارة ضدّ كل من ينتقد خيارات السلطة ولا سيما الرئيس.
كما أنّ توجه السلطة لمنع التداول الإعلامي بالقضية، فضلّا عن كونه يُعدّ ضربًا لحرية التعبير ولحقّ الولوج للمعلومة في قضية رأي عام، فإنّه يرجّح أنّ السلطة تُدرك هشاشة الملف ولا يبدو أنّها تثق بصلابة أدلة الإدانة لا سيما في ظلّ تأكيد محامي الدفاع على غياب أي أدلة إدانة جدّية وأنّ التهم ملفّقة وصدرت بالاعتماد فقط على أقوال شهود، وأنّ الغاية الأساسية هي إسكات المعارضة.
ومع بدء جلسات المحاكمة خلال الشهر الجاري، ارتأت السلطة أن تكون أولى جلساتها عن بُعد، باستعمال الفيديو ومن دون حضور المتهمين، وهي خطوة جاءت كردّ على مطالب فرق الدفاع وعائلات الموقوفين وبعض المنظّمات بعلنية المحاكمة وببثّها مباشرةً على إحدى القنوات الحكوميّة، ليتمكّن الرأي العام من الوقوف على حقيقة القضية. وهي خطوة جديدة من السلطة لجعل القضية بعيدة عن أنظار الرأي العام ولتحتكر المعطيات المتعلقة بالقضية وبتمرير ما تراه مناسبًا من دون أن تسمح بأن تكون المحاكمة علنية يشاهد فيها الجميع مجرياتها ويكون بوسع التونسي تقدير مدى جدّية الملف والتهم من عدمها.
قوبل القرار بالرفض على نطاق واسع لا سيما من جانب عائلات الموقوفين في قضية التآمر وفرق الدفاع عنهم وعدد من المنظمات غير الحكومية، الذين اعتبروا أنّ هذا الخيار يُخِلُّ بأُسُس المحاكمة العادلة، القائمة أساسًا على مبدأ المواجهة. بل ذهب المحامي وعضو هيئة الدفاع عن الموقوفين في قضية التآمر، أحمد صواب، في تصريح صحافي إلى القول إنّ سير الجلسة عن بُعد لا يمكن وصفه إلّا بكونه "وصمة عار وجريمة في حقّ المحاكمات".
لم يحضر المتهمون الجلسة باستثناء شخصين احتجاجًا على عدم تمكينهم من حقّهم في الحضور والدفاع عن أنفسهم داخل أسوار المحكمة، لتنتهي أولى الجلسات بتأخير "قضية التآمر على أمن الدولة" إلى جلسة 11 أبريل/نيسان المقبل، ورفض كل مطالب الإفراج.
رئيس الرّابطة التونسية لحقوق الإنسان، بسام الطريفي، قال لـ"عروبة 22": إنّنا أمام أكبر المهازل والفضائح القضائية، ومن أشدّ المظالم التي شهدها تاريخ تونس. فالمتهم في هذه الجلسات لا يرى إلّا هيئة المحكمة وممثل النيابة العمومية والكاتب والمتهمين الجالسين في الصفّ الأول حضوريًّا داخل قاعة المحكمة، فيما يُحجب عنه بقية الحضور، بما يشمل هيئة الدفاع والصحافيين والمراقبين. كما أنّ المتهم لا يستطيع التفاعل آنيًّا مع المحكمة أو الدفاع عن نفسه بحرّية"، وختم الطريفي بالتشديد على أنّ "القضاء يخشى مواجهة المساجين السياسيين المعتقلين، ويخشى مواجهة الحقيقة، ويخشون أجواء المحاكمات السياسية ومحاكمات الرأي".
(خاص "عروبة 22")