الحوكمة والديموقراطية

أزمة الدولة العربيّة

تواجه الدولة العربيّة تحدّيات متعدّدة المستويات ترتبط بنشأتها وطبيعتها وبعلاقتها بمحيطها الداخلي، مثلما ترتبط وتتأثّر بمحيطها الٳقليمي والنظام العالمي في متغيّراته وتحوّلاته المتواصلة، بدءًا من عمليات الفصل والعزل للأقاليم والكيانات والوحدات السياسية في فترة القوى الاستعمارية، وهو ما أعطى هذه الدول طابعًا يوحي بالاصطناعية الوافدة والغريبة، ما دون الدولة الحقيقيّة في تطوّرها التاريخي.

أزمة الدولة العربيّة

لم تتمكّن الدولة العربيّة من احتواء السلطة، سلطة الموروث السياسي، وفكرة السلطة وتضخّمها على حساب فكرة الدولة، التي تُختزل بأشخاصٍ يؤدّون معنى الوصول إليها في الوعيْ الجمعي فقط، بل صارت السلطة في المقدّمة والوصيّة عليها، وتطوّرت في الغالب ٳلى مسرح درامي عنيف وهدر موارد ومعاناة لا يمكن حصرها في غياب المواطَنة الحقيقية، تعبيرًا صارخًا عن التعارض القائم واختلالات العلاقة بين المجتمع والدولة.

استخدمت الدول العربية السياسات الوحدويّة في مواجهة الأخرى بعيدًا عن التكامل والاندماج أو التعاون العربي ذاته، وصارت العروبة والوحدة في أحيان كثيرة غطاءً وأداةً للتسلّطية والتدخّل في الشؤون الداخليّة، مما أثار النزاعات وتمثّلاتها.

حفظ الدولة كيانًا ومجتمعًا بموجب الجمع بين القوّة الاقتصادية والقوّة السياسية

على المدى الطويل، كانت القوميّة العربية قوّةً جيدةً، سمحت للناس بالتعاون كما لم يحدث من قبل. ولكنّ القومية ليس لديها إجابات على المشكلات العالمية، وغير قادرة على تهيئة البشرية لما سيحدث في التّكنولوجيا والتغيير المُناخي وسوق العمل. كلّ جهود التعاون أو التكامل تتوقّف هنا، على وعي الدروس المستفادة لواقع الجماعة، في وقت تكشف فيه أوضاع العالميْن العربي والٳسلامي عن استعداد النّاس للتضحية بالأمن الاجتماعي والسّلم الأهلي في كل حين، وأن يكونوا ضحايا الأنظمة الدكتاتوريّة والاستبدادية.

لا تزال عمليّة بناء الدولة الجديدة الديموقراطية بعيدة المنال، بينما تغرق بلدان عدّة في فوضى عارمة، بل تضع وجود كيانات في خطر وجودي، بمعزلٍ عن تقدير الدور السّلبي والمدمّر للتدخل الخارجي بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 وحتى اليوم.

التحدّي اليوم في الاتجاهات والتيارات الفكرية والسياسية الجديدة في معالجة قضايا العلاقة بين الدّين والدولة والمجتمع، وحدها الرؤى للعالم المفتوح، المتسامحة والمرِنة، كفيلة برأب التصدّعات وتجاوز الأخطار وحفظ الدولة كيانًا ومجتمعًا وتطوّرًا للشرعيّة بموجب الجمع بين القوّة الاقتصادية والقوّة السياسية وفقًا لمفهوم الدولة التضامنية في توزيع الموارد والسلطة، والدستورية في ترابط الحدود والكيانات الاجتماعية والاثنيّة.

قد تستمرّ ملامح الاستعلاء البدائي في الزّمن في ظلّ ملامح الحداثة وما بعدها، مع أنّ العالم العربي يمرّ بدرجات متفاوتة من العلمنة، ولا يعوق هذه العمليّة حضور الدّين في المجال العام بفعل التغيّرات المهمّة التي شهدتها المنطقة العربية، لا سيما في دول الخليج العربي في ٳسهامات تبدو متفائلة في ما يتعلق بمدى فاعليّة قوى التعليم والتنشئة الوطنيّة والحضور المأسَسيّ الأكاديمي في الجامعات الغربيّة، لكن ليس على صعيد قوى التحّول الديموقراطي وعوامل بناء المجتمعات المدنية، بل مجموعة من التصوّرات الذهنيّة المنشودة للحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية فقط.

حان الوقت لخروج الدولة العربية من حالة الذهول

مع ذلك، ثمّة إقرار ضمنيّ في الرؤى السوسيولوجيّة الحديثة بأهمّية وجود الدولة وضرورة الاستثمار في الحداثة وتمكين المجتمعات المحليّة كي تكون عناصر فاعلة في المجال العلمي الحرّ، مع ٳيمان عميق بحقّ المجتمعات العربيّة في أن تنعم بالحياة الجيّدة والتقدّم والرّخاء والعدالة والكرامة الإنسانية، ما يؤكد أهمية علم الاجتماع في تجديد الفكر العربي.

حان الوقت لخروج الدولة العربية من حالة الذهول على الصعيديْن الاقتصادي والجيوستراتيجي، وعلى المستوى السياسي والإيديولوجي، حيث ما زالت هناك قوى تسعى إلى استبدال سيادة القانون بمنطق القوّة، وإلغاء السياسات التي تحمي الحقوق الاجتماعية وحقوق النساء والفئات الأخرى التي تعاني من التمييز.

إنّ الأحداث السودانية والليبيّة واليمنيّة والصوماليّة والسوريّة والتونسيّة واللبنانيّة، خير شاهد في سياق تعقد وقائعها وما نتج عنها من تجاوز حدود المعقول بالمعايير الإنسانية والسياسية. والحلّ مدنيّ لمعضلة التجزئة السياسيّة والحروب المتمددة بين عِرقية وقبلية وحدودية وصراع على سلطة، والحل يكمن أساسًا في اعتبار أنّ مستقبل الإنسانية أصبح اليوم مشتركًا تقع مسؤولية رسمه على جميع شعوب الأرض.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن