"اتفاقية أكادير": هل فشلت في تعبيد طريق التعاون الاقتصادي البيْني؟

شهدت العلاقات التجارية بين المملكة المغربية وجمهورية مصر العربية خلال الأسابيع القليلة الماضية توتّرًا كبيرًا دفع الجانبين إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات الاحترازية، تمّ بموجبها تعليق العمل بعددٍ من بنود "اتفاقية أكادير"، وهو ما دفع باتجاه طرح عدّة تساؤلات، بخصوص مستقبل التعاون التجاري والاقتصادي العربي في ظلّ هذه الاتفاقية التي شهدت خلال السنوات الأخيرة انضمام كلّ من فلسطين ولبنان، وهو ما عزّز الآمال في التحاق دول أخرى وفي تطوير آليات عملها، وصولًا إلى تحقيق اندماج اقتصادي حقيقي للدول العربية.

قُبَيْلَ الخوض في تفاصل هذا التوتّر الطارئ على العلاقات التجارية بين الرباط والقاهرة، تجدر الإشارة إلى أنّ اتفاقية إقامة منطقة التبادل التجاري الحرّ بين الدول العربية المتوسطيّة المعروفة بـ"اتفاقية أكادير"، قد وُقعت في الرّباط بتاريخ 25 فبراير/شباط 2004 وتم تفعيل مقتضياتها ابتداءً من سنة 2007، وهي الاتفاقية التي تهدف إلى تنسيق السياسات الاقتصادية وإيجاد منطقة للتبادل التجاري الحرّ، وتعزيز التكامل الصناعي بين الدول الأطراف (مصر - المغرب - تونس - الأردن - فلسطين - لبنان)، إلى جانب زيادة التبادل التجاري البَيْني مع دول الضفّة الشماليّة للحوض المتوسطي وتعزيز الوضع التفاوضي للدول الأطراف أمام دول الاتحاد الأوروبي الذي يُعدُّ الشريك الاقتصادي الأوّل لها.

مكامن عديدة للخلل ترتبط أساسًا بالتفاوت الحاصل على مستوى القدرات التّصديرية لكلّ بلد على حدة

لقد كان لهذه الاتفاقية وقعٌ إيجابيّ على تحفيز المبادلات التجارية بين الدول الأعضاء في الاتفاق، فعلى الرَّغم من البدايات المتعثّرة الناجمة عن السياقات السياسية والاقتصادية الداخليّة والدوليّة التي فاقمتها أحداث "الربيع العربي"، إلّا أنّه سرعان ما تطوّرت العلاقات التجارية بين البلدان الموقِّعة على "اتفاقية أكادير" لتصل إلى مستويات مقبولة خلال العقد الأخير.

فعلى سبيل المثال لم تكن نسبة المعاملات التجارية لجمهورية مصر العربية مع دول الاتحاد تتجاوز سقف 3% قبل توقيع الاتفاقية، لترتفع هذه النسبة إلى أكثر من 5% بعد توقيعها، وهو ما يمكن تعميمه على بقيّة الدول بنسبٍ متفاوتة، الأمر الذي يوحي ظاهريًّا أنّ الاتفاقية أسهمت بشكلٍ كبيرٍ في تعزيز العلاقات التجارية بين هذه البلدان، إلّا أنّ تحليل المعطيات المتعلّقة بحجم هذه المبادلات وتوزيعها يقودنا للوقوف على مكامِن عديدة للخلل ترتبط أساسًا بالتفاوت الحاصل على مستوى القدرات التّصديرية لكلّ بلد على حدة، وكذلك التفاوتات المسجّلة على مستوى النّاتج الإجمالي الخام والنموذج الاقتصادي المعتمد في كل بلد، وهي التفاوتات التي أعطت الأفضلية للبعض، في حين لم تُـمَكِّن البعض الآخر من الاستفادة بشكلٍ أمثل من الفرص التي تمنحها الاتفاقية على مستوى تعزيز الصادرات.

الحيطة والحذر السمتان البارزتان في العلاقات التجارية بين الرباط والقاهرة

فقد استحوذت جمهورية مصر العربية على النّصيب الأوفر من الصادرات، إذ تجاوزت قيمتها خلال الفترة الممتدة ما بين سنة 2001 و2020 مليارًا وأربعمئة مليون دولار، مقابل واردات لم تتجاوز 631 مليون دولار خلال الفترة ذاتها، وهو الأمر الذي خلّف اختلالًا كبيرًا على مستوى الميزان التجاري وعجزًا كان سببًا في أزمات عديدة اندلعت بين دول الاتفاق، أبرزها أزمة سنة 2009 النّاجمة عن تعليق دخول شحنات لمركبات مصرية تمّ تصديرها إلى المغرب، وهو ما اعتُبر في حينه ردًّا مغربيًّا على تعنّت السلطات الجمركية المصرية في تيْسير ولوج شحنات السيارات المغربية التصنيع إلى السوق المصرية؛ وعلى الرَّغم من تجاوز البلدين لهذه الأزمة، واستئنافهما لعلاقاتهما التجارية المؤطّرة بمقتضيات "اتفاقية أكادير"، إلّا أنّ الحيطة والحذر ظلّا هما السمتين البارزتين في العلاقات التجارية بين الرباط والقاهرة.

أما واردات المملكة المغربية من مصر، فناهزت السنة الماضية 930 مليون دولار، وفقًا لمعطيات مكتب الصّرف المغربي، في حين استقرّت الواردات عند مستوى 52 مليون دولار، وهو ما يعكس نسب عجزٍ غير مسبوقة في الميزان التجاري بين البلدين، الأمر الذي شكّل سببًا في تفجّر أزمة جديدة بين البلدين سنة 2024 على خلفيّة اتهامات مغربية لمصر بعرقلة ولوج البضائع المغربية للسوق المصرية، بخاصّة منها السيارات، والسعي لإغراق السوق المغربية، وهو ما دفع الرباط مرة جديدة للتضييق على البضائع المصرية، من ذلك مثلًا، فرض رسوم جمركية إضافيّة على صادرات مصر من الطماطم المعلّبة والنسيج والسجاد، وهي الأزمة التي انتهت مرة أخرى إلى تسوية ودّية بين الجانبين.

تساؤلات عديدة حول القدرة التنافسية للاقتصاد المغربي 

نودّ التذكير في هذا الصّدد، بأنّ المملكة المغربية ترتبط بعدّة اتفاقيات للتجارة الحرّة مع بلدان عديدة، في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وتركيا، إلى جانب وضع الشراكة التي تربطها بالاتحاد الأوروبي واتفاقية التبادل الحرّ الأفريقية التي تفتح أمام صادراتها أسواق أزْيَد من خمسين بلدًا أفريقيًا، وهي في معظمها اتفاقيات وشراكات لم تُسْعف الرباط في تجاوز وضع العجز التجاري العام الذي تخطى السنة الماضية سقف الثلاثة مليارات دولار، وهو وضعٌ دفع المغرب مرّات عديدة لطلب إعادة تقييم هذه الاتفاقيات، وتعليق بعض بنودها، خصوصًا تلك المتعلقة ببعض السلع والبضائع التي تؤثر في الإنتاج المحلي، كالنسيج وبعض المنتجات الزراعية، وذلك رغبةً في تقليص العجز وحماية الصناعة الوطنية، وهو ما يطرح تساؤلات عديدة حول القدرة التنافسية للاقتصاد المغربي وعدم تمكّنه من استثمار اتفاقيات التبادل الحرّ لتعزيز حضور منتجاته على مستوى مختلف الأسواق العربية والدولية.

عجز تجاري مزمن

إنّ وضع العجز الذي يعاني منه الميزان التجاري المغربي إزاء نظيره المصري يمكن تعميمه أيضًا على الأردن وتونس، ففي خلال الفترة الممتدة من 2001 إلى 2020 استقبلت الأردن واردات مصرية بقيمة 680 مليون دولار، في حين أنّها لم تصدّر سوى 123 مليون دولار، كما استوردت تونس خلال الفترة عينها 283 مليون دولار ولم تصدّر سوى 95 مليون دولار، وهو ما يعكس حجم الخلل على مستوى الميزان التجاري لصالح مِصر.

خلال الجزء الثاني من هذا المقال، سوف نعمل على تسليط أضواء البحث على بقيّة مكامن الخلل التي تشوب تنزيل مقتضيات "اتفاقية أكادير" للتبادل الحرّ، من دون أن نغفل توجيه القارئ إلى بعض المقترحات والتوصيات التي يمكن أن تساهمْ في تحقيق بعض التوازن بين الدول الأعضاء وتحقيق اندماج اقتصادي حقيقي فيما بينها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن