إيران الهدف الأخير

تعود المواجهة مع إيران بقوة إلى واجهة الأحداث، بعد الضربات العسكرية المكثفة التي شنتها الولايات المتحدة على جماعة الحوثيين باليمن، وهي واحدة من وكلائها، في الوقت الذي تستمر فيه إسرائيل في مهاجمة ما تبقى من مقرات "حزب الله" بلبنان، واستئناف القتال في قطاع غزة رغم اتفاق وقف إطلاق النار، أي أذرعها الأخرى في المنطقة، ليصبح الجميع في مرمى النيران الأمريكية والإسرائيلية بشكل متزامن.

وكما صرح مدير العمليات في البنتاجون أليكس جرينكوتيش، فإن قواته استهدفت أكثر من 30 هدفا للحوثي في مواقع متعددة إضافة إلى منشآت تصنيع السلاح والبنية التحتية للطائرات المسيرة ومنصات الصواريخ، ووفقا لـ"وول ستريت جورنال" فإن هذه الضربات والتي تضمنت أيضا استهدافا للخبراء والقيادات العسكرية، تُعد هجوما شاملا يفوق بكثير الهجوم البريطاني الأمريكي المشترك الذي شهدته الأشهر الماضية، ردا على الأعمال التخريبية التي يقوم بها الحوثيون لتعطيل الملاحة الدولية في البحر الأحمر.

في هذا السياق، أشار المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية شون بارئيل، إلى ما قاله رئيسه دونالد ترامب عبر منصة "سوشيال تروث" من أن "طهران هي من سيتحمل المسؤولية وعواقب السلوك العدواني لهذه الجماعة، لأنها تتبعها"، وبحسب تعبيره "فسيُنظر لكل طلقة تطلقها على أنها طلقة أطلقتها القيادة الإيرانية بسلاحها، فهي من تتخذ القرار وتمدها بالتمويل والأسلحة".

لا شك أن هذه التصريحات العنيفة المصاحبة للعملية العسكرية الأمريكية ضد الحوثيين، تبعث برسالة قوية لإيران، مفادها أنها قد تكون المحطة التالية، وأن الصدام المباشر معها لن يكون مستبعدا، أو بعبارة أخرى، فإن الأمر يتجاوز الحيز الضيق للمواجهة مع أحد وكلائها، ليمتد إليها باعتبارها الهدف الأول والرئيسي والمُهدد للاستقرار الإقليمي في نظر واشنطن، ولذلك اعتبرت أن كل الخيارات مفتوحة للتعامل معها بما فيها الخيار العسكري، وبالتالي فإن مطالب الإدارة الأمريكية منها ستزداد خلال الفترة القادمة.

والواقع أن ما يزيد الأمور تعقيدا، هو اقتراب موعد انتهاء الاتفاق النووي الموقع معها 2015 والمعروف بـخمسة زائد واحد، ما يجعل هذا العام 2025 يمثل نقطة تحول مفصلية في العلاقة بين الجانبين، خاصة مع التصعيد في اللغة السياسية بينهما، وتلك الحاصلة على الأرض ولو بصورة غير مباشرة. لا جدال في أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض تشكل تحديا كبيرا يجب أن يؤخذ في الحسبان، كونه الطرف الذي انسحب منه من جانب واحد في 2018 ومازال يسعى لضمان إسقاط أي احتمال يسمح لها بأن تصبح قوة نووية.

يضاف إلى ذلك أن نسبة تخصيب اليورانيوم في إيران بلغت نحو الستين في المائة في الوقت الذي يتعين حسب الاتفاق ألا تزيد على الـ4%، ما يعني اقترابها من الوصول للسلاح النووي، وهو خط أحمر ليس فقط عند الولايات المتحدة، ولكن لدى إسرائيل التي يُفترض حسب عقيدتها السياسية أن تحتكر وحدها هذا السلاح، وهي مسألة تدعمها دوائر صناعة القرار الأمريكية.

وإذا كانت هذه العوامل تعزز من احتمالات المواجهة، فإن التغيرات التي اعترت ميزان القوة في المنطقة والتي لم تكن في صالح طهران طوال السنة الفائتة، تفاقم من الوضع القائم، إذ خسرت موقعها ونفوذها القوي فى سوريا بعد سقوط نظام بشار، مثلما تهاوت "حرب الإسناد" التي شنها "حزب الله" نصرة لحركة حماس في غزة، تحت دعوى وحدة الساحات، والتي انعكست على العراق باعتماده سياسة أكثر واقعية تخدم مصالحه بغض النظر عن تحالفه الوثيق معها، ناهيك عن الأزمة التي تتعرض لها حماس التي تصر حكومة نيتانياهو على مواصلة الحرب ضدها، للقضاء على بنيتها التنظيمية وتنحيتها عن حكم القطاع، والمرجح أن تشتد ضراوة لحين تحقيق هذا الهدف الإستراتيجي الذي حددته بعد عملية السابع من أكتوبر، وأخيرا كان الهجوم على الحوثيين لإضعافهم وحصارهم.

وفي ظل هذه التطورات اتبعت إدارة ترامب معها سياسة الحد الأقصى للعقوبات وشددتها مؤخرا بفرض عقوبات جديدة، لممارسة أكبر قدر من الضغط عليها، ومن ثم تعثرت كل محاولات إحياء الاتفاق النووي أو استبداله بآخر أطول أمدا، كما لوحت تل أبيب باحتمال توجيه ضربة لبرنامجها في هذا الصدد، ومن هنا حذرها مستشار الأمن القومى للبيت الأبيض مايك والتز، من أن عليها التخلي عن جميع جوانب برنامجها النووى بما في ذلك منظومة الصواريخ والتخصيب والأسلحة.

وصرح لشبكة "سي بي إس" بأنه "لا يمكنها امتلاك سلاح نووي، وأن جميع الخيارات مطروحة على الطاولة بما فيها الخيار العسكري" وكان قد سبق وقال قبل شهر خلال مقابلة مع "فوكس نيوز" بأن الإدارة الحالية لن تكون مستعدة للتفاوض معها، إلا إذا تخلت بالكامل عن برنامجها النووي، وهو نفس ما أكد عليه المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بريان هيوز كما أوردته الواشنطن بوست، بقوله "إنه يجب عليها أن تثبت قيامها بتفكيك هذا البرنامج"، مضيفا "أن هناك طريقين للتعامل معها، إما عسكريا، أو من خلال اتفاق تلتزم فيه بهذه الشروط وتبتعد فيه عن الارهاب"، والمقصود بالطبع وكلاؤها وتزعمها لما يسمى بمحور الممانعة.

هذه التصريحات ليست من قبيل المعارك الكلامية، وإنما تعكس خطورة المشهد والموقف الذي ستجد إيران نفسها فيه عاجلا أو آجلا، بعد أن فقدت العديد من أوراقها التفاوضية وضعف نفوذها في لعبة القوة في المنطقة. أمام هذه المتغيرات، فهناك عدة سيناريوهات محتملة، إما أن تختار الاستمرار في سياستها الخاصة بتطوير برنامجها النووي لاستعادة قوتها على الردع، ما قد يعرضها لمخاطر المواجهة العسكرية.

أو تقديم تنازلات في الملفات المفتوحة إقليميا تجنبا للصدام، ولإدارة صراعها بشكل سلمي، وهي إشكالية لم تجد لها إجابة حاسمة، حيث صرح المتحدث باسم خارجيتها إسماعيل بقائي بأسلوب مراوغ بأن "بلاده لا تريد الكشف الآن عن مضمون الرسائل التي تلقتها من الرئيس الأمريكي، ولا طبيعة الرد فيما يتعلق ببرنامجها النووي"، متجنبا الحديث عن القضايا الأخرى، وفي إطار هذا الغموض، هل تقوم إسرائيل بضربة استباقية في الداخل الإيراني لمنعها من دخول النادي النووي؟ كلها سيناريوهات محتملة، ولكنها تضع المرشد علي خامنئي في أصعب اختيار له، منذ تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية.

(الأهرام المصرية)

يتم التصفح الآن