في غزّة تستمر جريمة الإبادة الجماعية كأبشع ما تكون بالقصف الجوي والتجويع والحرمان من خدمات الماء والكهرباء والصحة وتدمير كلّ مقوّمات الحياة، والدفع بمشروع التهجير بكلّ الوسائل الممكنة، وفي الضفّة يتكرّر السلوك الإسرائيلي عينه في غزّة، وإنْ على نطاق أضيق، فتقتل المقاومين الذين تسمّيهم بالإرهابيين، وتداهم المنازل وتعتقل من تشاء، وتطرد عشرات الألوف من مساكنهم، وتعيث الجرّافات فسادًا في بنيتها التحتيّة، وتحمي قطعان المستوطنين الذين يهاجمون المواطنين الأبرياء العُزَّل.
وفي لبنان، لا تلتزم باتفاق وقف إطلاق النار برفضها تنفيذ التزامها بالانسحاب من كامل الأراضي التي تحتلّها كما ينصّ الاتفاق، وتواصل هجماتها بدعوى أنّ هناك من يحاول إعادة التسلّح. أمّا في سوريا فحدِّث ولا حرَج، فاحتلال الأراضي السورية الذي تمّ بعد سقوط الأسد مستمر، وكذلك الهجمات العسكرية بالذريعة نفسِها، وهي ادّعاء وجود مخاطِر ما على أمن إسرائيل، على الرَّغم من كل ما نعلمه عن توجهات حكام دمشق الجدد التي لم تدَع مجالًا لشكّ في أنهم لا يمثلون في الحاضر أو المستقبل خطرًا على إسرائيل، ناهيك عن التدخل في الشأن الداخلي بدعوى حماية الأقليات.
غياب البوصلة الصحيحة في العديد من النقاشات الدائرة بشأن تقييم المقاومة وأدائها ومستقبلها
وفي مواجهة كل هذه الأفعال الإسرائيلية التي تنتهك على نحوٍ جسيمٍ أمن ثلاث دول عربية على الأقلّ، ثمّة حاجة لفعلٍ مؤثّرٍ ينطلق من رؤية سليمة تهتدي ببوصلة صحيحة، غيْر أنّه من الواضح في تقديري أنّ هذه البوصلة غائبة، إذ يُلاحَظ في هذه الأيام أنّ هناك ضغوطًا هائلة على المقاومة باتجاه الاستسلام لإسرائيل وتسليم سلاحها والخروج من غزّة، تحت شعار "كفى تدمير غزّة وقتل أبنائها"، على أساس أنّ المقاومة لم تُنجِز بعملية "طوفان الأقصى" سوى أنّها جلبت القتل والدمار للقطاع.
موضوع انتقاد المقاومة والهجوم عليها سابق لعملية "طوفان الأقصى"، غير أنه ازداد بعدها لاتهام خصوم "حماس" لها بأنّها السبب في القتل والخراب والتدمير الذي حلّ بغزّة، وأحيانًا اتهامها، أو على الأقلّ اتهام قادتها، بأنهم قاموا بتمثيلية مع إسرائيل لإعطائها الذريعة لارتكاب جريمتها، ويتّصل هذا الاتهام بآخر مفاده أنها صنيعة إسرائيل، بينما تُتَّهم أيضًا من خصومها بالعمالة لإيران، ومعظمها اتهامات نابعة ممّن يعترضون على منطق المقاومة أصلًا، ناهيك بتناقضها وبأنّ تفنيد معظمها من السهولة بمكان، لكنّ هذه ليست بؤرة الاهتمام في المقالة، وإنّما تتمثّل البؤرة في التركيز على غياب البوصلة الصحيحة في العديد من النقاشات الدائرة بشأن تقييم المقاومة وأدائها ومستقبلها.
في الحالة الفلسطينية فشل النضال الديبلوماسي فشلًا ذريعًا بعد اتفاق أوسلو
المدهش أنّه في ظلّ هذا الافتضاح الكامل للمشروع الصهيوني في الوطن العربي، وبصفة خاصة في الدول المتاخمة لفلسطين لا يجد البعض سبيلًا لمواجهة هذا المشروع ومخاطره الدّاهمة على العرب، إلّا دعوة المقاومة للخروج من غزّة وتسليم سلاحها، وهو منطق يحتاج نقاشًا علميًا هادئًا وموضوعيًا.
وثمّة حجج عديدة يمكن أن تُساق للردّ على هذه الدعوة، أولها أنّ المقاومة ردّ فعل طبيعي وتاريخي للظاهرة الاستعمارية، وأنّ الشقّ المسلّح لهذه المقاومة كان حاضرًا في كل تجاربها من دون استثناء مع الاختلاف بين التجارب في وزنه النسبي.
والحجّة الثانية تتمثّل في أنه إذا كانت المقاومة السلمية قد نجحت بامتياز في حالة التجربة الهندية بزعامة غاندي فإنّها فشلت فشلًا ذريعًا في تجارب أخرى كالجزائر وجنوب اليمن والمستعمرات البرتغالية في أفريقيا، ممّا جعلها تُـمثّل نماذج تاريخية للنضال التحرّري المسلّح، وفي الحالة الفلسطينية فشل النضال الديبلوماسي فشلًا ذريعًا بعد اتفاق أوسلو الذي تجاوز الـ30 سنة عمرًا.
أمّا الحجّة الثالثة فترد على مسؤولية المقاومة عن القتل والتدمير، والردّ أنّ السلوك الاستعماري عامّة والإسرائيلي خاصّة لم يتوقف يومًا عن القتل والتدمير بمقاومة وبدون مقاومة، كما تشهد الكيفية التي نشأت بها إسرائيل بإرهاب الفلسطينيين وقتلهم وطردهم قبل أي مقاومة.
هل يتصوّر مَن ينادون بخروج المقاومة صورة المستقبل بعد الخروج؟
وتثير الحجّة الرابعة سؤالًا مفاده: من يخرج من أين وإلى أين؟ فالمقاومة ليست "حماس" وحدها، وإنما هي على رأس فصائل عديدة أحدها بالمناسبة من عناصر فتحاوية، ومن الذي سيخرج؟ وهل هم القادة فقط أم المقاتلون؟ وإلى أين يذهبون وبأي منطق يخرج أصحاب الأرض إلى أراضٍ غريبة عنهم؟ وإذا كانت المعضلة هي سلاح "حماس" فسوف يختفي السلاح تمامًا، ولكن بعد انتفاء الحاجة إليه أي بزوال الاحتلال.
وأخيرًا، هل يتصوّر مَن ينادون بخروج المقاومة صورة المستقبل بعد الخروج؟ من يريد معرفة الإجابة عن هذا السؤال عليه الرجوع إلى التهديد الصّفيق لوزير الدفاع الإسرائيلي لأهل غزّة الذين طلب منهم التسليم بكل شيء من دون أن يعدهم بأي شيء!.
(خاص "عروبة 22")