ليس تفصيلًا أن تنتصب طاولة عُمان التفاوضية المباشرة أو غير المباشرة، بعد التحوّلات التي أحدثتها هزائم وانتكاسات ما بعد "طوفان الأقصى"، حيث بات بنيامين نتنياهو المنفوخ بالبوارج الأميركية، راسم معادلات المنطقة. إنّها المعادلات التي لطالما ادّعى ساسة طهران انفرادهم برسمِها. لكنّ الوقائع الجيوستراتيجية الجديدة أفصحت عن مُتغيّراتٍ جديدةٍ أضحت معها إيران، لا سيّما بعد الخسائر الاستراتيجية التي أصابتها ومحور المقاومة، في قتالٍ تراجعيّ وتفاضليّ بيْن بقاء النّظام من جهة، والتخلّي عن مفاعلاتها النووية وصواريخها الباليستية وأذرعها الولائيّة من جهة أخرى.
مع هذا، تُذكّرنا التجارب بفتاوى إيران المتناسبة مع الظروف، أكانت هجومية، مثل "قادرون على تدمير إسرائيل خلال 7 دقائق ونصف"، أو تراجعيّة، مثل "التخلّي عن الأذرع، حمايةً للنظام"، وهي الأذرع العربية الستّة التي سبق للجنرال قاسم سليماني تحديد مهمّتها بـ"الدفاع عن طهران". لكنّها الأذرع التي خرج أكبرها من الخدمة، ولم يتبقَّ منها إلّا الفصائل العراقية الولائيّة التي قادها سليماني، ظاهريًّا، لقتال "داعش" بحماية الأباتشي الأميركية، وباطنيًا، للتغوّل في المدن السُنّية التي كانت هي وليس نظيرتها الشيعيّة هدف غزوات "داعش".
ظنّت إيران أنّ التّخادم مع الأميركيين وفّر لها "بوليصة تأمين" دائمة لتكتشف بعد فوات الأوان أنّها فقدت صلاحيتها
بدا انخراط الفصائل الولائية و"حزب الله" بقيادة سليماني في مقاتلة "داعش"، من بركات الرقصة النووية الأوبامية - الخامنئية، التي عكست حجم التّخادم الأميركي - الإيراني، الذي سمح لأذرع إيران بالتغوّل في مفاصل دولها وعصبها العسكري والاقتصادي والاستراتيجي.
ظنّت إيران أنّ التّخادم مع الأميركيين وفّر لها ولمحورها "بوليصة تأمين" سياسية دائمة، ولهذا بالغوا في ترديد شعارهم "قادرون على تدمير إسرائيل" لزوم التعبئة الديماغوجية، ظنًّا منهم أنّ التخادم وبوليصة التأمين يغطّيان مخاطر الانخراط في مساندة غزّة والمقاومة الفلسطينية، ليكتشفوا بعد فوات الأوان أنّ "بوليصة التأمين" فقدت صلاحيتها، وأنّ الذين بقوا منهم على قيد الحياة يتلمّسون رؤوسهم، لأنهم تجاوزوا الخطّ الأحمر الأميركي الذي لم يُطِحْ بصدّام حسين إلّا لأنّه ضرب "إسرائيل".
في ظلّ هذه التحوّلات الهوجاء، تتفاوض إيران مُكرهةً مع ممزّق الاتفاق النووي الأوبامي، توازيًا مع إعلان ترامب ونتنياهو المتكرّر عن منع إيران من امتلاك القنبلة النووية، كضرورةٍ استراتيجيةٍ تستكمل خسارتها لسوريا!
ليس سرًّا أنّ إسقاط النظام السوري السابق، كان محلّ تفاهم وتعاون تركي - إسرائيلي. وليس سرًّا أنّ تركيا ومنذ اليوم الأوّل لدخول أحمد الشّرع الى دمشق، طالبت بتشكيل لجان فنية لترسيم الحدود البحرية مع سوريا، وتحدثت عن معاهدات عسكرية، واتفاقات اقتصادية واستثمارية مشابهة او مستنسخة عن تلك التي عقدتها مع حكومة فايز السرّاج في طرابلس الليبية.
تدخّل ترامب لتنظيم الخلاف التركي الإسرائيلي بهدف ترسيم خطوط النفوذ والهيمنة على سوريا بعد طرد إيران منها
لكن يبدو أنّ الأحلام التركية اصطدمت بجدار الصدّ الاسرائيلي الذي استهدف كلّ المطارات والقواعد والمعسكرات التي كانت تنوي تركيا إنشاء قواعد جويّة ودفاعية فيها، ما كان سيجعل الأجواء السورية امتدادًا للأجواء التركية، وكان سيمنح تركيا تفوّقًا استراتيجيًا لنفوذها المتعاظِم انطلاقًا من سوريا، الأمر الذي استدعى تدخلًا ترامبيًا لتنظيم الخلاف بين الحلفاء، فكانت المفاوضات في أذربيجان، بهدف ترسيم خطوط النفوذ والهيمنة على سوريا بعد طرد إيران منها، ولوضع آلية لمنع الاصطدام بينهما، على غرار الآلية الروسية - الإسرائيلية التي لم تلجم يد اسرائيل عن قصف كل ما تراه تهديدًا لها من الجيش السوري السابق، واستكملته بعد إسقاط النظام بالإجهاز على ما تبقّى من قواعده.
ما تقدّم لا يعني أنّ الخلاف التركي - الإسرائيلي حول سوريا محصور بالملف الأمني، بل يتعدّاه للملف الداخلي بفعل ادّعاء إسرائيل "حماية بعض المكوّنات"، ما عزّز التعثّر الذي يصيب أحمد الشّرع بحيث باتت المطالبات بالأقاليم تُطوّقه شرقًا وجنوبًا وغربًا، ما ضاعف التحدّيات التي تستدعي المراجعة العميقة، اتسّاقًا مع المطالب الداخلية والغربية والأميركية.
وهي مطالب، أوْردها بوضوح رجل الأعمال السوري البريطاني أيمن الأصفري في مقابلة مطوّلة على "تلفزيون سوريا" عن الدولة المدنية الديموقراطية، ودولة المواطَنة التي لا إقصاء فيها ولا تهميش، والتي لا يتواجد في مفاصلها السياسية والعسكرية والاقتصادية أشخاص مطلوبون خارجيًا ومصنّفون على لوائح الارهاب. وبعد الأصفري، أطلّ عزمي بشارة في مقابلة على تلفزيون "العربي" أكد فيها رؤية الأصفري، ما أشاع مناخًا يستظهر رغبةً تركيةً - قطريةً في تغييرٍ جديدٍ يستوْعب مطالب المكوّنات الداخلية، ويستجيب للشروط الخارجية لرفع العقوبات عن سوريا.
ترامب يرغب في إقلاع المحطة الثانية من "اتفاقات ابراهيم" للتفرّغ لإدارة الحرب التجارية مع الصين
لا يمكن عزل ما تقدّم أعلاه عن الحرب المستمرة على غزّة التي أعرب ترامب عن تفاؤله بالمفاوضات التي يُجريها فريقه مع "حماس" التي تناقش قيادتها في القاهرة مقترح مصر حول "اليوم التالي" الذي يتركّز على تشكيل لجنة تدير قطاع غزّة لستة أشهر، ويُفضي الى إنهاء حكم "حماس"، ما يزخّر زيارة ترامب إلى السعودية برغبته في إقلاع المحطة الثانية من "اتفاقات ابراهيم" التطبيعية مع إسرائيل، بما يُمكّنه من التفرّغ لإدارة الحرب التجارية التي أشعلها انطلاقًا من رفعه رسوم التعريفات الجمركية بدءًا بالحلفاء والأصدقاء، ثمّ قرّر تجميدها 90 يومًا، لتتركّز المعركة المحمومة مع الصين التي يقول ساستها بأنّها ستقاتل حتى النهاية. ما يشي بأنّ هدف الحرب التجارية الترامبية مع الصين هو لهندسة طاولة المفاوضات معها، كما يحصل في أوكرانيا مع فلاديمير بوتين الذي استُثنيت بلاده من العقوبات الترامبية!
فهل حانت لحظة التسويات الكبرى، أم ستستعر الحروب بأشكال متعدّدة؟.
(خاص "عروبة 22")