لم تكتفِ فرنسا مثل دولٍ أوروبيةٍ وعربيةٍ أخرى بتقديم مساعداتٍ إنسانيةٍ وماديةٍ وطبّيةٍ فقط للبنان، إنّما زار رئيسها أيضًا بيروت وكان أوّل رئيس أجنبي يزور لبنان حيث تفقّد المنطقة المنكوبة واستمع للناس باهتمام وحرارة شديديْن وعبّر عن دعمه الإنساني لهم ووعدهم باستعادة حقّهم وبأنّ العدالة ستأخذ مجراها، ووصف انفجار المرفأ بأنّه "صورةٌ لأزمة لبنان الحالية"، وطالب القيادة اللبنانية بـ"تغييرٍ عميقٍ" وأكّد على أنّ هناك حاجة إلى "نظامٍ سياسيّ جديد". وأضاف أنّ التمويل مُتاح لكن يتعيّن على قادة البلد تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والسياسية أوّلًا، وطالب بإجراء تحقيق دولي في الانفجار وبعقد مؤتمرٍ لمساعدة لبنان، وأرسلت فرنسا بالفعل أربع طائرات تحمل رجال إنقاذ ومستلزمات طبّية، كما وصل إلى بيروت وقتها فريق من المحقّقين الفرنسيين وأعلن أنّ من سيثبت مسؤوليته عن الانفجار سيواجه "أقصى عقوبة".
حادثة مرفأ بيروت التي راح ضحيّتها حوالى 218 شخصًا بينهم مفقودون إلى جانب ما يقرب من سبعة آلاف مصاب، مثّلت صدمةً للمجتمع اللبناني بمختلف مكوّناته لأنّ الضحايا لم يسقطوا في حربٍ إنّما نتيجة تقصيرٍ وتواطؤٍ داخليَّيْن من الطبقة السياسية.
لغة ماكرون تعليقًا على الصور المروّعة في العريش كانت حادّة لكنّها لن تُسفِر عن أيّ تغيير في الموقف الإسرائيلي
وقد عبّرت زيارة ماكرون إلى بيروت عن تضامنٍ معنويّ ورمزيّ كبير مع لبنان وأظهرت النّخبة الفرنسية مشاعر محبةٍ مؤكّدة لهذا البلد، ولكنّها كشفت عن عجزٍ كاملٍ عن إحداث أيّ تغيير عميق (كما قال ماكرون) أو غير عميق في أيّ من المعادلات السياسية اللبنانية على الرَّغم من الزيارات المكّوكية لمبعوث ماكرون، إلّا أنّ فرنسا عجزت عن دفع النّخب اللبنانية إلى تشكيل حكومة جديدة أو حتّى محاسبة الجُناة على هذه الجريمة أو المساهمة في حل مشكلة المصارف واكتفت بـ"اللقطة الحلوة" التي سجّلها الرئيس الفرنسي وعكَسَت مشاعر طيبة وإنسانيّة، لكنّها عجزت عن تنفيذ نقطةٍ واحدة، ممّا وعد به رئيسها أو تغيير شبرٍ واحدٍ من المُعادلة المسيطرة على الحُكم في ذلك الوقت.
مشهد العريش مشابهٌ لمشهد المرفأ، من زاوية تفاعل ماكرون الإنساني مع الضحايا، فقد تأثّر الرجل بما شاهده وسمعه في مستشفى العريش بعد أن تأكّد بالصوت والصورة أنّ ضحايا العدوان الإسرائيلي ليسوا أرقامًا تُذكر في نشرات الأخبار إنّما لكلّ منهم مأساة إنسانية حقيقيّة، بخاصة أنّ الإصابات التي لحقت بأطفال غزّة مروّعة، وهو ما دفع ماكرون إلى المطالبة بوقفِ إطلاق النار وبإدخالٍ فوريّ للمساعدات الإنسانيّة، وهي مطالب أكّد عليها الرجل ورفع من نبرة نقده لإسرائيل ولكنّها مَطالب لا تمتلك فرنسا أيّ قدرة لتنفيذها، بل إنّ الزّعماء الثلاثة الذين اجتمعوا في القاهرة (الرئيسان المصري والفرنسي وملك الأردن) اتّصلوا بالطرف القادر على وقف العدوان أي الرّئيس دونالد ترامب.
لغة الرئيس الفرنسي تعليقًا على الصور المروّعة التي شهدها في العريش كانت حادّةً، ولكنّها لم ولن تُسفِر عن أيّ تغيير في الموقف الإسرائيلي من دون أن يعني بالضرورة أنّها عديمة الفائدة إنّما يعني ببساطةٍ أنّ الدور الفرنسي لا يمكن أن يكون بديلًا لأدوار القوى العظمى المُسيْطرة حاليًا على النّظام الدولي وتحديدًا أميركا ثم الصّين وأخيرًا روسيا، وأنّ إمكانات فرنسا مهما كان دور رؤسائها لا تستطيع أن تبنيَ مسارًا مستقلًّا عن المسارات التي حدّدتها القوى الكبرى. ففي لبنان لم يكن في إمكانها مهما حاولت وضغطت ومهما كان حجم إرثها الثقافي هناك أن تبنيَ مسارًا جديدًا لا ترضى عنه الولايات المتحدة، التي لم تَحْتَج حاليًا لأن يحضر رئيسها ولا وزير خارجيتها إلى بيروت إنّما نائبة المبعوث الأميركي للشرق الأوسط لاستكمال ملف تسليم سلاح "حزب الله" للدولة والإصلاح الاقتصادي والمالي.
قدرات فرنسا لا تسمح لها أن تبنيَ مسارًا تفرضه على المجتمع الدولي
المؤكد أنّ الأمر نفسه ينطبق على الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، فكلّ الكلام القوي والصارم الذي ذكره ماكرون في مصر عن الوقف الفوري لإطلاق النار لن يستطيع تنفيذه إلا إذا كان هناك تبنٍّ أميركي له، أو قدرة عربية على فرض معطيات جديدة تدفع في اتجاه وقف إطلاق النار.
قدرات فرنسا لا تسمح لها أن تبنيَ مسارًا تفرضه على المجتمع الدولي إنّما يمكن أن تُعدّل أو تُحسّن من شروط مسارٍ قائم، ودورها سيظلّ مهمًّا في هذه المساحة، وبالتالي بقيت رحلة ماكرون إلى بيروت في ذاكرة الكثيرين باعتبارها رحلة تضامن ومشاعر طيّبة لم تُغيّر شيئًا يُذكر في معادلات السياسة، وهو ما تكرّر في العريش حيث تضامن ماكرون مع الفلسطينيين، ولكنه لم يستطِع وقف معاناتهم.
(خاص "عروبة 22")