على الرَّغم من أهمية الدور الغربي والأميركي في إعادة إعمار سوريا وفي إطلاقها أساسًا، وِفق ما هو شائع من قول ومواقف وتأكيدات، فإنّ ثمة ما يستحقّ الوقوف عنده في الفكرة، التي يرتبط الذهاب بها وإليها من الناحية العمليّة بموقف السوريّين، وهو موقف لا يقتصر على موقف السلطة، التي تدير العهد السوري الجديد المولود على خلفيّة سقوط نظام الأسد، إنّما يرتبط أيضًا بموقف عموم السوريين من جهة أخرى.
والأمر في الحالتيْن، أعني إجمالي الموقف السوري، يقوم على أساس الاستجابة للضرورات السورية من جهة تأهيل أنفسهم وظروفهم للانخراط في العملية، وتوفير سُبل إنجاحها بأحسن المستويات، ويستجيب من جهةٍ ثانيةٍ للمطالب الإقليمية والدولية التي تقف في خلفية مشاركة الدول والمنظمات الدولية والإقليمية في إطلاق وتمويل عملية إعادة الإعمار والمساعدة على انجاحها بحكم الترابط المصلحي بين سوريا والعالم.
قوى المجتمع الدولي أشارت إلى ما ينبغي أن يكون في أُسُس النّظام الجديد من انفتاح مزدوج نحو الداخل والخارج
لقد حملت الأشهر الأربعة الأولى من عمر العهد الجديد، بَشائر أولى عن الموقف السوري في رغبة الانطلاق نحو زمنٍ سوريٍّ جديدٍ، يُمثّل قطيعةً مع نظام الأسد بما حمله من مواقف وسياسات وممارسات في المستويَيْن الداخلي والخارجي. ففي مستوى السلطة، صدرت تصريحات تعكس هويةً جديدةً للدولة السورية، تقوم على انفتاح داخلي وخارجي، والالتزام بعلاقات سلمية وندّية، قائمة على التعاون مع المحيط الإقليمي والدولي، ونشطت عملية تواصل سياسي وديبلوماسي، وجرى إخراج سوريا من الحلف الإيراني - الروسي، والعودة بها إلى الإطار العربي - الإقليمي الأقرب.
بطبيعة الحال، فإنّ التبدّلات الجارية في توجّهات العهد الجديد، كانت توافقًا وتعبيرًا عن موقف الأكثرية، التي أظهرت فرحًا، وبَنَت آمالًا على التغيير في إخراجها من حفرة الأسد، ودفعها على سكّة تطورٍ طبيعي. وبجانب الموقف العام الذي كان يعكس الرّغبة في التغيير، برزت مواقف ومطالب تفصيليّة، تعكس التنوّع السوري ولا سيما في الجوانب الإيديولوجية والسياسية وسط حذرٍ عام من الذهاب إلى تناقضات وصراعات عنيفة، تُشكّل تهديدًا لمستقبل سوريا والسوريين.
وعلى الرَّغم من أنّ الموقف السوري بعمومية وفي شقَّيْه، يُمثل استجابةً للمصلحة السورية، فإنّه في الوقت نفسِه، يُقدّم الهوية السورية الجديدة للعالم بدوله ومؤسّساته بديلًا عن الهوية التي كان يُمثّلها نظام الأسد الذي تمت الإطاحة به، وإحلال نظام جديد مكانه، يطرح هويةً مغايرةً، ترسم صورةً جديدةً للعلاقات السورية مع العالم الذي لا شكّ أنّ له شروطًا ومطالبَ في طبيعة التغيير السوري وسعيه إلى إعادة تطبيع علاقاته مع سوريا، والتي ستكون عملية إعادة الإعمار المرحلة الأكثر أهميةً في تأسيس عودة سوريا إلى المجتمع الدولي.
وإذا كانت القوى الفاعلة في المجتمع الدولي، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة وأوروبا ودول عربية وتركيا، دعمت وأدارت التغيير السوري ومجيء سلطة العهد الجديد، فإنّها رسمت ملامح لما ينبغي أن يُزيل من ارتكابات النظام الأسدي وأبرزها الانضواء في الحِلف الايراني، وتحويل سوريا إلى نموذج لإرهاب الدولة، ومصنع كبتاغون، ومركز لتجارة الممنوعات، وأشارت إلى ما ينبغي أن يكون في أُسُس النّظام الجديد من انفتاحٍ مزدوجٍ نحو الداخل من جهة ونحو الخارج في الجهة الاخرى، والمحور الأساسي في الانفتاح الداخلي إقامة نظام يُشارك فيه كلّ السوريين، ويحارب التشدّد والتطرّف، ويرعى حقوق النساء ومكوّنات الجماعة الوطنية المتنوّعة، ويقطع أيّ علاقة وتواصل مع متطرّفين في الخارج.
تشاركيّة السلطة والمجتمع تعزز صورة سوريا وتخلق حالة أمان تدفع للمشاركة الخارجية في إعادة بناء البلاد
وإذا كانت استجابة سلطات العهد الجديد لما تقدّم في إطار مهمّات سياسية وإدارية واقتصادية، يفرضها الوضع السوري الصعب محاطةً بالمخاوف من جهة وضعف أو انعدام المعارف والتجارب من جهة أخرى، فإنّ الوضع يتطلّب انفتاحًا واسعًا نحو الخارج يًطمئنه، والأهم انفتاحًا مماثلًا نحو الداخل لا يعطيه الحقّ في المشاركة النشطة في إدارة الحياة السورية وتفاعلاتها فقط، بل يجعله واجبًا، مربوطًا بالحقّ في الرّقابة على السلطة وتصحيح مسار السياسات لضمان أعلى مردود ممكن، والخلاصة في هذا الأمر إدارة تفاعل خلّاق بين السلطة والمجتمع.
ومما لا شكّ فيه، أنّ تشاركيّة السلطة والمجتمع في المسار المطلوب، ستعزّز صورة سوريا في عيون السوريين، سلطةً ومواطنين، وفي المحيط الإقليمي والدولي، ليس من خلال قدرتها على إعادة ترتيب أولوياتها وعلاقاتها الداخلية في تجاوز الأوضاع الصعبة الموروثة من العهد الأسدي فحسب، بل خلق حالة أمان تدفع الدول والمؤسسات الدولية للمشاركة الخارجية في إعادة بناء البلاد استعدادًا لمرحلة عودة سوريا لأخذ مكانتها في الأسرة الدولية.
يجزم الكثير من المتّصلين بالوضع السوري بصعوبةِ تحقيق ما تقدّم، وهذا صحيح، لكنّ الأمر لن يكون في سلّم المستحيل، إذا جسّد السوريون رغبتهم في الخلاص من إرث النظام البائد، وأخلصوا النوايا، وتشاركوا الجهود في مواجهة ظروفٍ لا يملك السوريون فيها رفاهية الاختيار ولا الانتظار.
(خاص "عروبة 22")