اقتصاد ومال

خريطة الفقر في البلدان العربية وفرص مكافحته

الفقر بكلّ البؤس المرافِق له ليس قدرًا، بل هو مُنتج رئيسي أو ثانوي للنّظم الاقتصادية - الاجتماعية المختلفة، حسب طبيعة كلّ منها. والفقر بمعناه المتعارَف عليه دوليًا، يعني العيش بأقل من 2,15 دولار في اليوم للفرد كمحدّدٍ للفقر المُدقع، أو العيش بأقلّ من 3,65 دولارات في اليوم للفرد كمحدّدٍ للفقر العام، أو العيش بأقلّ من 6,85 دولارات للفرد في دول الدخل المتوسط المرتفع، وذلك وِفقًا لخطوط الفقر لدى البنك الدولي المحسوبة وفقًا لتعادل القوى الشرائية.

خريطة الفقر في البلدان العربية وفرص مكافحته

تُعتبر الطبيعة الطبقيّة للنّظم الاقتصادية - الاجتماعية، مولِّدةً للفقر في الدول العربية من خلال سوء توزيع الدخل، وعدم وجود نظام فعّال لإعادة توزيعه من خلال نُظم الضرائب والدّعم والتحويلات. وبغضّ النظر عن الطبيعة الطبقيّة للنُّظُم الحاكمة في الدول العربية، فإنّ هناك بلدانًا فقيرةً بصفةٍ عامةٍ حيث يقلّ متوسط نصيب الفرد فيها من الدخل عن خط الفقر أو يزيد عنه قليلًا، بما يجعل الغالبية الساحقة من سكانها فقراء، سواء نتجَ ذلك عن فقر الموارد وسوء إدارتها، أو عن عدم الدخول في مسار التطوّر الاقتصادي والتحديث الزراعي والصّناعي مثل السودان، واليمن، والصومال، وجزر القمر، حيث يبلغ متوسط نصيب الفرد من الدّخل في الدول المذكورة بالترتيب نحو 534، و618، و717، و1377 دولارًا للفرد وذلك عام 2023.

مسببات الفقر كالبطالة والفساد والحروب والإرهاب والاعتداءات الأجنبية تستنزف موارد الأمّة وقوّة عملها

هناك مسبّبات عادية ومتكرّرة للفقر، مثل انحياز النُّظُم الحاكمة للطبقة العليا ومصالحها على حساب باقي المجتمع، والبطالة، والفساد الذي يحوّل المال العام لجيوب حفنةٍ من الفاسدين، وحرمان المناطق الرّيفية والعشوائية من الخدمات الصحية والتعليمية والبنية الأساسية. لكنّ العديد من الدول العربية تعاني من مسبّباتٍ استثنائيةٍ وإضافيةٍ للفقر تتمثّل في الحروب الأهلية والإرهاب والاعتداءات الأجنبية، وكلّها تستنزف موارد الأمّة، وقوّة عملها، وتؤدّي إلى تعطيل أو تخريب أو تدمير جهازها الإنتاجي، وتُدخلها في دوامةٍ من التردّي الاقتصادي الذي يؤدّي لتزايد الفقر ووصوله إلى مستوياتٍ غير عادية.

وتشكّل البطالة، آليةً رئيسيةً للتهميش الاقتصادي والفقر لأنّها تعني ببساطةٍ حرمان البشر من كسْب العيش بكرامةٍ من خلال عملهم، بما يدفعهم إلى هوّة الفقر والتحوّل إلى عالةٍ على أُسَرهم، فإذا كانت فقيرةً عمّقوا فقرها، وإذا كانت على حافّة الفقر سقطوا معها إلى هوّته.

وتؤدّي البطالة إلى رفع معدل الإعالة الذي بلغ في مجموع الدول العربية 4 أشخاص لكلّ عامل، إضافةً للعامل نفسِه. وتشير البيانات الرّسمية الأقلّ من الأرقام الحقيقية، إلى أنّ معدل البطالة في الوطن العربي في مجموعه، بلغ 12,2% من قوّة العمل العربية البالغة 101,4 مليونًا عام 2022.

خريطة الفقر العربي ومسارات مكافحتها

بالنّظر إلى المُسبّبات العادية والاستثنائية للفقر، فإنّ معدّله يصل لمستوياتٍ قياسيةٍ في البلدان التي تعاني من كليْهما، مثلما هو الحال في قطاع غزّة الفلسطيني الذي يتعرّض لحرب إبادة إجرامية من قبل الكيان الصهيوني الغاصب، والتي حوّلت كل سكّان القطاع (100%) إلى فقراء بمعنى عدم القدرة على الوصول للحدّ الأدنى من الاحتياجات الضرورية للاستمرار في الحياة بعد إغلاق المعابر وتدمير البنية الأساسية والاقتصادية والصحية والتعليمية.

كذلك الأمر بالنّسبة إلى السودان الذي وصل معدّل الفقر فيه رسميًا إلى 65% من عدّد السكان عام 2024، في ظلّ الحرب المدمّرة بين الجيش الذي يستحوذ على السلطة، والعصابات القبليّة العنصريّة المسمّاة "الدعم السريع" التي شكّلها هو نفسه لقمع الشعب، قبل أن ينفجر الصّراع الدموي بينهما للاستحواذ على السّلطة. أمّا الصومال الذي يعاني من الانقسامات والصراعات، فإنّ معدّل الفقر فيه بلغ نحو 70,7% من السكان.

وبلغ معدل الفقر في اليمن نحو 48,6% من السكان عام 2014. ومع تفاقم الصراعات الداخلية، والحروب الخارجية، فإنّ معدّل الفقر في اليمن من المرجّح أن يكون قد تضاعف في الوقت الراهن.

أمّا العراق صاحب ثالث أكبر احتياطي نفطي في العالم، والذي ينتج نحو 4,5 ملايين برميل يوميًا بما يضعه في المرتبة الرابعة عالميًا، فإنّ معدل الفقر لديه بلغ 18,9% من السكّان في ظلّ الظلم الاجتماعي واستحواذ الأحزاب والميليشيات التابعة لإيران على السلطة وتوزيع الدخل والثروة، والانتشار المروّع للفساد منذ الاحتلال الأميركي للبلاد عام 2003، وما تلاه من سيطرة أتباع إيران على السلطة والاقتصاد. ويُضاف إلى ذلك الصّراعات الدّينية بين السلطة وتنظيمَيْ "القاعدة" و"داعش"، والتي اتُّخذت تكأة لتدمير ونهب المناطق السنّية في وسط وشمال وغرب العراق.

ووِفقًا لأحدث بيانات متوفّرة دوليًا، بلغ معدل الفقر كنسبةٍ من السكان، نحو 42% في جزر القمر عام 2014، ونحو 31% في موريتانيا عام 2015، ونحو 27% في لبنان عام 2012. ومن المرجّح أن تكون الأزمات السياسية والمالية والاقتصادية اللبنانية، والأعداد الكبيرة من اللاجئين التي تدفّقت من سوريا إليه، والاعتداءات الصهيونية المدمِّرة عليه، وكلّها لاحقةٌ على ذلك التاريخ، قد أدّت إلى ارتفاع معدّل الفقر في لبنان عن ذلك المستوى.

مكافحة الفقر ممكنة إذا اتبعت النُّظُم التي يكون الفقر مُنتجًا رئيسيًا لها سياسات فعّالة في إطار إصلاحٍ اقتصاديّ شامل

وبلغ المعدل في جيبوتي نحو 21,1% عام 2017. وبلغ المعدل 15,7%، و15,2% في الأردن وتونس بالترتيب عام 2018. كما بلغ المعدّل نحو 32,5% في مصر عام 2017. ومن المرجّح أن يكون المعدّل في مصر قد ارتفع كثيرًا بعد وصول معدّل التضخّم وفقًا للبيانات الرسمية إلى 24,4%، و33,3% عَامَيْ 2023 و2024، والتوقّعات ببلوغه 19,7% في العام الحالي. ولا تتوفّر بيانات عن الفقر في العديد من الدول العربية على الرَّغم من انتشاره حتّى في الدول الغنية بسبب سوء توزيع الدخل.

ويمكن القول إنّ مكافحة الفقر وتخفيف وطأته هي أمورٌ ممكنةٌ تمامًا، حتّى في إطار النُّظُم الاقتصادية - الاجتماعية التي يكون الفقر مُنتجًا رئيسيًا لها، وذلك إذا اتّبعت تلك النُّظُم مساراتٍ وسياساتٍ فعّالةً لضمان توزيعٍ معتدلٍ للدخل من خلال خطط التشغيل، في إطار إصلاحٍ اقتصاديّ شامل، مع وضع نظامٍ عادلٍ للأجور يضمن للمشتغلين وأُسَرهم حياةً كريمةً، ووضع نظامٍ لكفالة العاطلين وكبار السّن والمُعاقين، وتوفير الخدمات العامة الصحية والتعليمية بالذات بصورةٍ مجانيةٍ أو شبه مجانيةٍ، ووضع سياساتٍ فعّالةٍ لتحسين توزيع الدخل عبر نُظُم الضرائب والدعم والتحويلات.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن