ماذا عن المستوى غير الرسمي الذي يعبّر عن مواقف الجماهير والنخب العربية؟، وهو المستوى الأهمّ بالنسبة لمستقبل العروبة، لأنّ التراجع في التزام السياسات الرسمية بالعروبة يمكن تصحيحه بقرارات حكومية، كما حدث مثلًا في إلغاء الاتفاق الإسرائيلي-اللبناني لعام ١٩٨٣، أو إنهاء موريتانيا لعلاقتها مع إسرائيل في ٢٠١٠، أما تراجع إيمان الجماهير والنخب بالعروبة فيمثّل معضلة يصعب حلّها إن لم يكن مستحيلًا، فهل حدث مثل هذا التراجع؟.
في الإجابة على هذا السؤال المحوري والصعب - للافتقار إلى مسوح ميدانية دقيقة وكافية - يمكن تقديم ثلاث ملاحظات؛ أولها: أنّ هزيمة ١٩٦٧ قد مثّلت فرصة للتوجّهات المعادية للعروبة للانقضاض عليها والتشكيك في صلاحيتها كمرجعية للعمل العربي، وكان الزخم الجماهيري والنخبوي العروبي قبل الهزيمة قد بلغ الذروة، وبالذات في تأييد معارك التحرّر الوطني، ومواجهة محاولات ربط الوطن العربي بسلسلة الأحلاف الغربية، وكان للجماهير دورها المقدر في الانتصار في هذه المعارك كافة، ويُلاحظ أنّ هذا الزخم لم يتبدّد فور الهزيمة بدليل حركة الجماهير العربية بعد تنحي عبد الناصر، واستقباله التاريخي في الخرطوم بمناسبة القمة التي انعقدت لمواجهة الهزيمة، وإن كانت وفاته قد أفقدت الحركة الجماهيرية العربية ملهمًا وموجّهًا.
القوى الخارجية تعمل بدأب لتفكيك الرابطة العربية
وتشير الملاحظة الثانية إلى أنّ الخلافات العربية التي اشتعلت لاحقًا قد امتدّت للأسف إلى الجماهير العربية، كما حدث عندما طابقت دوائر عربية معيّنة بين موقف الجماهير المصرية وسياسات أنور السادات تجاه إسرائيل، وكذلك عندما اعتبر قطاع من الرأي العام المصري موقف الحكومات العربية المناهضة لسياسات السادات موقفًا ضد مصر.
أما الملاحظة الثالثة فترصد دور القوى الخارجية في الوقيعة بين الشعوب العربية عن طريق أذرعها الإعلامية الناطقة بالعربية، وكلّها تعمل بدأب لتفكيك الرابطة العربية اتّساقًا مع توجهات هذه الدول، فإلى أين وصلت "البنية التحتية" للعروبة إذا جاز التعبير؟
لا شك أنّ مكانة العروبة بين الجماهير والنخب العربية لم تعُد كما كانت عليه في خمسينات القرن الماضي وستينياته، ولكن يخطئ من يتصوّر أنّ الجماهير العربية قد فقدت تعلّقها بالعروبة والرابطة المؤسسة عليها، ولحسن الحظ أنّ لدينا شواهد تجريبية دالة على ذلك، وأتخيّر فعاليات كأس العالم لكرة القدم في الدوحة ٢٠٢٢ مثالًا، فقد أقبل الإعلام الإسرائيلي على تغطيتها برغبة جامحة في إثبات أنّ القبول العربي لإسرائيل قد أصبح من المسلّمات بعد اتفاق بعض الدول العربية معها فيما عُرف بالاتفاقات الإبراهيمية، فإذا بردود فعل كافة من حاول ممثّلو الإعلام الإسرائيلي الحوار معهم لا تخرج عن اثنين: إما رفض الحوار أصلًا أو تأكيد أنه لا توجد إسرائيل وإنما فلسطين، وقد فاجأتني هذه الحقيقة مفاجأة سعيدة لإنه علميًا كان ممكنًا أن يقبل البعض الحوار ولو للدفاع عن وجهة النظر العربية، ويُلاحَظ أنّ جماهير كأس العالم ليست أصلًا مسيّسة وإنما جاءت حبًا في كرة القدم، ناهيك بمشاعر الجماهير التي شاهدت المباريات والفرق العربية التي لعبتها المؤيّدة لفلسطين، وبالذات الفريق المغربي صاحب الأداء المتميّز الذي لا تخفى دلالة انتصاره للقضية الفلسطينية.
المشاعر العروبية الأصيلة تحتاج إلى صونها وتأطيرها وتوظيفها في الاتجاه الصحيح من أجل المستقبل
وفي العام التالي مباشرةً زوّدنا كأس الخليج لكرة القدم في البصرة بدلالات جديدة على صدق المشاعر العروبية بين الجماهير العربية عامة والخليجية خاصة، ومفهوم بطبيعة الحال المغزى الرمزي لهكذا حدث بعد كارثة غزو الكويت، وهكذا قُدر لكرة القدم التي ارتبطت أحيانًا بملابسات توتّر في العلاقات الشعبية العربية أن تثبت لنا حقيقة العروبة، والأمثلة بهذا الخصوص وفيرة، وإن أحببتُ الإشارة بصفة خاصة إلى أنني لاحظت تأييد أحفادي (بين١٣ و ١٧ سنة) بحماس حقيقي لبطلة التنس التونسية الصاعدة أُنس جابر، ولم أجد تفسيرًا لهذا إلا أنّ العروبة باقية ومتجذّرة.
عروبة الجماهير العربية بخير إذن والحمد لله، غير أنّ هذا لا ينبغي أن يدفعنا إلى السكون والاطمئنان، فهذه المشاعر العروبية الأصيلة تحتاج من كل مثقّف يؤمن بالعروبة أن يعمل على صونها وتعزيزها وتأطيرها وتوظيفها في الاتجاه الصحيح من أجل المستقبل الذي يليق بأمّتنا.
لقراءة الجزء الأول: هل تراجعت العروبة؟
(خاص "عروبة 22")