اقتصاد ومال

إعادة إعمار سوريا.. بين الآمال والواقع!100 مليار دولار لمسح غبار 13 سنة حرب

دمشق - مزن مرشد

المشاركة

كلّما ذُكر ملف إعادة إعمار سوريا، قفزت إلى الواجهة أسئلة مؤجّلة، وضعت السوريين أمام واقعٍ وجوديّ بيْن نظرتهم المُتفائلة بمستقبل البلاد بعد سقوط بشار الأسد، وبين واقعٍ سيّءٍ خلّفته سنوات من الحرب والدمار يعيشونه يوميًّا، ووعودٍ معلّقةٍ بين ضجيج السياسة وواقع الاقتصاد المنهك. 

إعادة إعمار سوريا.. بين الآمال والواقع!
100 مليار دولار لمسح غبار 13 سنة حرب

صحيح أنّ الشارع السوري أنهكته الحرب، لكنّه متشبثٌ بأمل عودة الحياة الطبيعية وإعادة شرايين الحياة إلى مدنهم وقراهم، بينما الأرقام والمؤشرات تتحدّث بلغةٍ مختلفةٍ، أكثر برودة وواقعيّة. سأحاول في هذا التقرير أن أقتربَ من الخطّ الفاصل بين الحلم الشعبي بإعادة البناء، والمُعطيات الاقتصادية التي لا تزال تقف عائقًا أمام أيّ خطوةٍ جدّيةٍ على هذه الطريق.

تشير التقارير الاقتصادية الصّادرة عن وزارة التخطيط في الحكومة الانتقالية إلى أنّ الحاجة الأوّلية للبدء بإعادة الإعمار تقدّر بـ100 مليار دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة، مع توقّعات بأنْ تصلَ التكلفة الكاملة إلى ما بين 350 و400 مليار دولار على مدى عقديْن وذلك حسب البنك الدولي.

وقد يكون هذا المبلغ التقديري غير كافٍ بواقع أنّ 45% من البنية التحتيّة العامّة في سوريا باتت خارج الخدمة، بما يشمل الطرق، والجسور، والمدارس، والمشافي، ومحطات الكهرباء، والمياه.

آراء اقتصاديين: فرص قائمة رغم العوائق

يقول الدكتور نبيل العلي، أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق، في تصريحٍ سابقٍ له، إنّ "سوريا اليوم أمام فرصةٍ تاريخيةٍ للاستفادة من تجربةِ ما بعد النّزاعات في دولٍ أخرى مثل البوسنة والعراق. إعادة الإعمار ليست مستحيلةً، لكن لا بدّ من خطةٍ واقعيةٍ تعتمد على جذب الرّأسمال السوري في الخارج أوّلًا، ومن ثم فتح قنوات مع الدول العربية الداعمة".

ويضيف: "المفتاح هو الثقة. إذا شَعَرَ المُستثمر السوري أو العربي أنّ هناك شفافيةً واستقرارًا قانونيًا وأمنيًّا، فستبدأ الأموال بالتدفق تدريجيًا. السوق السورية واعدة من حيث الموارد البشرية والموقع الجغرافي".

أمّا الخبيرة الاقتصادية سحر المولى، فتشير إلى أنّ "أخطر ما يمكن أن يُعرقل إعادة الإعمار هو غياب الشفافيّة، أو أن يتمَّ توزيع المشاريع وِفق المحسوبيّات. ما نحتاجه اليوم ليس فقط تمويلًا، بل إصلاح إداري والعدالة في الأولويّات".

مواطنون: تعبنا من الحرب... نريد حياة عادية

في حي القابون المُدمّر في دمشق، يقول معن زين الدين، المُوظف الحكومي السّابق: "بيْتي صار ترابًا، كلّ عائلتي تهجّرت. لكن اليوم، بعدما راح النظام، لدينا أمل بأن نرجع نعيش حياةً طبيعية. نحتاج إلى مدارس، مياه، كهرباء، عمل... نريد كل شيء يمسح وجع 13 سنة".

وفي مدينة حلب، تقول بتول حمدان (34 عامًا) وهي أمّ لطفليْن: "كتر خير الله رجع في دولة، بس نحنا بدنا نشوفها على الأرض"... وتضيف: نريد شوارع نظيفة، أدوية بالمستشفى، مراكز تعليم. وإذا كانت الحكومة الجديدة تفكّر بشكل صحيح، فيجب أن تبدأ من الناس قبل الأبنية".

المناطق المنسيّة... والعدالة في التوزيع

يبقى ضمان عدالة التوزيع في مشاريع الإعمار، فهي أحد أكبر التحدّيات التي تواجه الحكومة الانتقالية. إذ إنّ المناطق التي كانت خارج سيطرة النّظام طوال سنوات الحرب تعاني من دمار أوسع وخدمات شبه معدومة.

وفي هذا السّياق، دعا وزير الإدارة المحلّية في الحكومة الانتقالية إلى "خططٍ متوازنةٍ لا تميّز بين المناطق وفق ولاءاتها السّابقة، بل تنطلق من حجم الحاجة الفعلي ومشاركة المجتمع المحلي".

التمويل... من أين؟

في ظلّ غياب الاحتياطي النّقدي، وعدم قدرة الدولة على الاقتراض حاليًا، تقترح الحكومة الجديدة حزمةً من السياسات لتأمين التمويل، تشمل إصدار سندات إعمار وطنيّة تستهدف رجال الأعمال السّوريين في الداخل والخارج. ومحاولة إنشاء صندوق إعمار مشترك عربي – أوروبي تشارك فيه الدول الداعمة. وتعمل الحكومة حاليًا على تشجيع استثمارات المغتربين السوريين عبر تسهيلات قانونية وضريبية. وإنشاء شراكات بين القطاعيْن العام والخاص في قطاعات مثل الإسكان والنقل والطاقة.

إعادة إعمار سوريا ممكنة لكن من الصعب أن تتمَّ من دون توازي المسار السياسي مع المسار القانوني والاداري، يدعمهما مسار آخر وهو المسار المُجتمعي، فمع ترسيخ الاستقرار السياسي وتثبيت الانتقال السلمي، وتشكيل مؤسسات مستقلّة لمحاربة الفساد، يجب سَنّْ قوانين جديدة للاستثمار، وإعادة النظر في قوانين الملكيّة العقاريّة، وتبسيط الإجراءات أمام القطاع الخاص.

ثم يأتي تعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع، لتشجيع عودة اللاجئين والنّازحين، ومشاركتهم في عملية الإعمار من خلال برامج تشغيل وتعليم.

من حيث التكلفة، إذا قُدّرت بـ400 مليار دولار، فإنّ البداية تكون بأقل من 10% منها خلال أوّل 3 سنوات، تُركِّز على البنى التحتية الأساسية، ثم يجري توسيع العمل تدريجيًا. التمويل يجب ألا يكون شرطه "الوفرة"، بل التنظيم والشفافية، عبر إطلاق مشاريع صغيرة محلّية، والعمل بمنهجية "الإعمار المجتمعي" وليس فقط "المقاولات الكبرى".

سوريا اليوم ليست ما بعد الحرب فقط، بل ما بعد دولةٍ قُـتلت فيها المؤسّسات، وتمزّق فيها المجتمع. إعادة الإعمار ليست بناء جدران، بل بناء الثّقة. الأمل موجود، والإرادة الشعبية واضحة، لكنّ نجاح هذا المسار يتطلّب قيادةً رشيدة، وشراكةً واسعة، وحمايةً من التدخّلات والمصالح الضيّقة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن