تقدير موقف

ما فعلوه بفاطمة!

فاطمة حسّونة، ربّما لم يسمع بعضنا بالاسم، ولكن "مهرجان كان" السينمائي الشهير كان قد وضع اسمها في قوائمه ومنشوراته بعد أن اختار الوثائقي الذي تلعب بطولته الصحافية الفلسطينية، أو بالأحرى كاميرتها، للعرض بعد أيام على شاشته الموازية المخصصة للأفلام المستقلة "ACID". عشية عرض الفيلم، قتلها الإسرائيليون، ليُضيفوا إلى الوثائقي وثيقةً دامغةً تتمثّل في المشهد الأخير (استشهادها) الذي لم يتسنَّ لها، بالطبع تصويره.

ما فعلوه بفاطمة!

"ضع روحك على يدك وامشي"، أو كما هو عنوانه الأصلي بالإنكليزية: "Put Your Soul on Your Hand and Walk" لم يكن فقط عنوانًا لفيلم وثائقي، بل كان تجسيدًا لغويًا، للعاميْن الأخيريْن في عمر الفتاة التي قضت بصاروخٍ إسرائيليّ وهي لم تغادر الخامسة والعشرين ربيعًا، بالضبط كما لم تغادر القطاع المُحاصر الضيّق، الذي يضع كلّ من فيه أرواحهم على أكفّهم، ماضون تحت القصف اليومي المتواصل لما يقرب من عاميْن من شماله إلى جنوبه، ثم من جنوبه إلى شماله وهكذا (كما "سيزيف") في رحيل (بلا رحيل) على طريقٍ بلا معالم غير الدماء والدمار، والصمت المُتخاذِل من الأقربين قبل البعيدين.

عملت على توثيق جرائم الاحتلال منذ بداية الحرب واستشهدت مع 10 من عائلتها بصاروخ إسرائيليّ "دقيق التصويب"

"كيف يعيش هؤلاء النّاس في هذا السّجن الكبير/الضيّق المُسيّج بالحصار والدمار واللا أمل؟ ما الذي يحاول الإسرائيليون محوه في هذه البقعة الضيّقة من الأرض بكلّ هذه الأطنان من القنابل والصواريخ والمتفجرات؟". للإجابة عن السؤال الذي، بحكم الاعتياد والعجز نحاول أن ننساه، ولتسجيل الواقع، كما يجري على أرض الواقع، ذهبت المُخرجة الفرنسية ـ الإيرانية المتميّزة سبيدة فارسي إلى القاهرة لتحاول الوصول إلى غزّة "حيث المِحرقة"، التي يحاول الإسرائيليون إخفاءها، أو تبريرها، إلّا أنّها فشلت، كغيرها من الصحافيين، ومراسلي وكالات الأنباء العالمية الذين تمنع قوات الاحتلال وصولهم، أو بالأحرى تغطيتهم "المستقلّة". قبل أن تعود أدراجها يائسةً، دلّها أحدهم على فاطمة؛ الفتاة العشرينيّة التي لم تضع كاميرتها جانبًا يومًا واحدًا منذ بداية الحرب، فكان أن أصبحت الصحافية الفلسطينية الصغيرة (وكاميرتها) عينًا للمخرجة النّابهة، تُسجّل بها ما يجري.

كما هي عفوية البسطاء، صادقةً، ونقيةً من ألوان البروباغندا وتلوّنات الديبلوماسية، حرصت فارسي وشريكتها الفلسطينية على أن يمضي فيلمهما هكذا؛ بلا سيناريو مسبق، فالحكايا والمشاهد في غزّة لم تكن أبدًا بحاجة إلى سيناريو.

كانت المخرجة الفرنسية - الإيرانية متحمّسةً، ولكنّها كانت أيضًا تخشى أن يكون فيلمها سببًا في استهداف الفتاة الفلسطينية الصغيرة، وعبّرت عن ذلك بوضوحٍ مؤلمٍ في حوارها مع "لوموند": "كنت أستيقظ كلّ صباح لأتساءل إذا كانت ما زالت على قيد الحياة".

هذه هي الحرب الأولى في التاريخ الحديث التي تُـمنع فيها وسائل الإعلام العالمية من تغطيتها

في اليوم التالي مباشرةً لاختيار الفيلم للعرض في مهرجان "كان"، وفي الوقت الذي بدأ فيه المنظمون في البحث عن طريقةٍ تتمكّن بها فاطمة من حضور العرض، استشهدت الصحافية/المصوّرة الفلسطينية (التي عملت على توثيق جرائم الاحتلال منذ بداية الحرب) مع عشرةٍ من عائلتها، بفعل صاروخٍ إسرائيليّ "دقيق التصويب"؛ كما يقول الإسرائيليّون أصاب منزلها. هل تعمّد الإسرائيليون قتْلها لإسكات صوتها (أو حرق أفلامها) كما فعلوا مع غيرها من الصحافيين، أم فعلها أحدهم "على سبيل التسلية، وتزجية أوقات الفراغ" كما يقول جنود الاحتلال متباهين بأفعالهم تلك على وسائل التواصل الاجتماعي؟ لا نعرف، ولكنّنا نعرف أنّ الإسرائيليين قتلوا 157 صحافيًا منذ بداية الحرب، حسب الإحصاءات المستقلّة للاتحاد الدولي للصحافيين IFJ (إحصاءات الأمم المتحدة تصل بالرقم إلى 209)، كما نعرف أنّ هذه هي الحرب الأولى في التاريخ الحديث التي تُـمنع فيها وسائل الإعلام العالمية من تغطيتها، بفعل الرّفض الإسرائيلي المستمرّ والثابت لدخول الصحافيين، ولا أظنّ أنّ هناك هدفًا لذلك المنع غير محاولة التعتيم على ما يجري من إبادة.

في فبراير/شباط 2024، أي منذ أكثر من عام، نشر خمسون من كبار مراسلي الصحافة العالمية رسالةً مفتوحةً تدعو إلى توفير "وصولٍ حرٍّ وغير مُقيّدٍ إلى غزّة لجميع وسائل الإعلام الأجنبية". كعادتهم، تعامَل الإسرائيليون مع الرسالة/المطلب كما يتعاملون مع كلّ القرارات الدولية: التجاهل. بل واستصدرت السلطات الإسرائيلية قرارًا من المحكمة العليا يدعم هذا التجاهل، في نموذجٍ فجٍ لغرور القوّة، وعجرفة الانحراف بالسلطة.

كانت "شاهدة حيّة على الجريمة والحداد والجوع"

"ربّما الآخرون في العالم الواسع لا يعرفون بالضبط ما يجري هنا... مهمّتي أن أجعلهم يعرفون. عندما أضع بطاقات الذاكرة في كاميرتي، أشعر وكأنني أجهّز بندقيتي. هذا نوعٌ من المقاومة"، هكذا قالت فاطمة الصغيرة لمُخرجة الفيلم. بل ربّما قالته لنا جميعًا، لتذكّرنا بما يجب أن نكتب.

"يجب أن نكون جميعًا، صانعي الأفلام والمشاهدين على حدٍّ سواء، جديرين بنورها، وإلهامها...

كانت ابتسامتها ساحرة مثل عنادها: شاهدة حيّة على الجريمة، والحداد، والجوع...

وسط المشاهد المروعة، كنا نفرح، لمجرّد رؤيتها ما زالت على قيد الحياة".

العبارة "الموجزة"، التي تصف ربّما حال كلّ امرأة، ورجل، وطفل فلسطيني "يحاول أن يعيش" تحت آلة الإبادة الإسرائيلية التي لا ترحم، نقلتها كما وردت في بيان لصنّاع الأفلام المستقلة يرثون فيه فاطمة "التي لم يعدْ فيلمها، بعد موتها كما كان".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن