بصمات

القيم الدّينية والمدنية... صدام أم تعايش؟

التقابل بين الدّيني والمدني هو أحد تجلّيات الحداثة وإحدى صيغ التعبير عن مسار التحديث في الغرب الأوروبي. هذا معطى تاريخي وتلك قضية مسلّم بها، أو قُلْ إذا شئت إنّ الشّأن ظلّ كذلك حتّى العقود القليلة الأخيرة حين أخذت ملامح تشكّك تطلُّ برأسها قبل أن تغدوَ قضيةً كليةً تتمّ صياغتها على النحو التالي: ألا يبدو أنّ الدّين يشهد عَودةً مُظَفَّرةً إلى الوجود الثقافي الغربي؟ أليست مسألة "خروج الدّين" من العالم تغدو، من جديد، مسألةً مُربكةً بعد أن دَرَجَ الإنسان الغربي على الاعتقاد أنّ "المسألة الدّينية" قد تمّ الحسم فيها بكيفيّة نهائيّة لصالح الحياة المدنيّة؟.

القيم الدّينية والمدنية... صدام أم تعايش؟

يُشكّل هذا السؤال الأخير قضيةً محوريةً في وعي العديد من المفكّرين في الغرب الأوروبي اليوم، ونحن نُنوّه خاصةً بالفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه في هذا الصدد. وأغلب الظنّ عندي أنّ معرفتنا، نحن العرب، بفكر الرّجل معرفةً محدودةً - بل لعلّها تكاد تكون منعدمة - مع علوّ صيته والتداول الكبير لمؤلّفاته في الساحة الثقافية الفرنسية ومكانته في الفكر الفلسفي المعاصِر على امتداد العقود الأربعة الأخيرة. وما يعنينا من فكر غوشيه هو كونه يعرضُ قضيةً محوريةً، وجوديةً، بالنسبة لعالمنا العربي: قضية الدّين وصورته في الوجود الإنساني المعاصر.

معيشنا الفعلي وإشكالاتنا العينيّة العربيّة تظلّ الهاجس والموجّه

نودّ أن نمهّدَ للقول في مسألة "خروج الدّين من العالم" بوقفةٍ نتساءل فيها عن دلالة التضادّ بين القيم الدّينية / القيم المدنيّة (أو الزوج المفهومي كما تقول المناطقة) ثم نتبيّن بعد ذلك، في حديثٍ مفردٍ، النَّحْوَ الذي تبلورُ به التَّضَادّ بين المجموعتيْن من القيم (المدنية في مقابل الدّينية). ثم نتساءل بعد ذلك ما إذا كان الأمر يتعلق بتنافٍ مُطلقٍ واستحالة تعايشٍ، أم أنّ الأمر غير ذلك. ثم متى تبيّن لنا "الخيط الأبيض من الخيط الأسود" نظرنا في المسألة في ضوء ما يفرضه وجودنا الثقافي العربي المشترك من تساؤلاتٍ وما يفرضه الواقع العيْني في ذلك الوجود.

ولعلّنا في غنًى عن التأكيد أنّ انشغالنا الأوّل والأساس، في منبر "عروبة 22"، بعيد عن الاهتمام الأكاديمي المحض والاهتمام المعرّف المجرّد، بل إنّ معيشنا الفعلي وإشكالاتنا العينيّة العربيّة تظلّ عندنا الهاجس والموجّه. وفي هذا الصّدد يحقّ لنا القول إنّ مسألة "خروج الدّين من العالم" ليست عندنا مسألة جدلٍ أكاديميّ محضٍ وانشغالٍ أكاديميّ صرفٍ، بل إنّها تتّصل بالمشترك الثقافي العربي بصلةٍ قويةٍ وبالتّالي فإنّ الخوض فيها هو أبعد ما يكون عن النّظر المجرّد.

شهد الغرب الأوروبي في مستويات الاقتصاد والاجتماع والفكر ميلاد وتطوّر أنماطٍ جديدةٍ، بدءًا من القرن السابع عشر، مخالِفةً لتلك التي عاش عليها ذلك الغرب قرونًا عديدة قبل ذلك. يمكن اعتبار هذه الصورة الجديدة، إجمالًا، ثمرةً لثوراتٍ ثلاثٍ عُظمى نتجت عن كلّ واحدةٍ منها هزّات قوية في أنظمة الوجود فانعكست على الوعي الثقافي العام والقيم أفضل تجلٍّ لذلك.

ثورةٌ أولى أحدثها ما يُنعت بالإصلاح الدّيني أو حركة "الريفورم". ومتى شِئنا أنْ نبسّط القول في معنى "الريفورم" (أو الإصلاح الدّيني - كما نعبّر في المعتاد عن هذه الحركة) لقلنا، تبسيطًا وإجمالًا، إنّها الحركة التي قادها جناح من الكنيسة الكاثوليكية، وخُلاصة القول فيها إقرارُ حقّ المؤمن في عبادة الله وتقديسه على النّحو الذي يُقرّه ضميره من دون خضوعٍ تامٍّ لأوامر السلطة الكنسيّة والتزام مُطلق بالنظام الكهنوتي التقليدي وبمسلّماته. والرمزان القويّان لهذه الحركة هما جان كالفان من جهةٍ أولى (ومن ثم الحركة الإصلاحية الكالفينية) ومارتن لوثر من جهةٍ ثانيةٍ (ومن ثم النزعة الإصلاحية اللوثرية) ومن عمليْهما، كلّ بأسوبه واختياراته، سيتبلْورُ في الغرب الأوروبي النّسق البروتستانتي في استقلالٍ عن الكنيسة الكاثوليكية وبعد عقودٍ متصلةٍ من الصراع الدموي العنيف وليس الخصام الإيديولوجي فحسب.

بموازاة هذه الثورة الدينيّة ستتبلْور ثورة أخرى، في مستوى المعرفة العِلمية ومناهجها، ممّا سيتكوّن عنها ميلاد علومٍ ونُظُمٍ معرفيّةٍ جديدةٍ، يغدو من الواجب أن نتحدّث عن تقابل (= تعارض) بين القديم وبين الجديد - وبطبيعة الأمر عن صراعٍ مريرٍ بين النّسقيْن أو النظاميْن. القديم، مُمثلًا بالسلطة السياسية والكنسية، والجديد مُمثلًا بالقوى الاجتماعية والاقتصادية الصاعدة في تحالفٍ مع الحركة البروتستانتيّة، أساسًا.

التقابُل بين المنظومتيْن الفكريتيْن الدّينية والمدنيّة تعبير عن سيْرورة الحداثة وبلْورتها في المجتمع والفكر

وثورة ثالثة، هي صدى للثورتيْن المتقدّمتيْن وبلورة لعمل كلّ منهما، هي التي حدثت في مستوى الوعي الثقافي العام وانعكست في التقابُل بين منظومتيْن من القيم: القيم الدّينية من جانب أوّل (التقوى، الصبر، المحبة...) والقيم المدنية، من جهة أخرى (العقل، الحرية، التسامح، الانسان...).

يصحّ القول، إجمالًا، إنّ القيم "المدنية" انبثقت من جوْف القيم "الدّينية" - ضدًّا لها وفي صراعٍ معها مثلما يصحّ القول، على نحو ما بدأنا به حديثنا اليوم أن هذا الصّراع بين الدّيني والمدني، والتقابُل بين المنظومتيْن الفكريتيْن الدّينية والمدنيّة، تعبير عن سيْرورة الحداثة وبلْورتها في المجتمع والفكر في العالم الغربي في الأزمنة الحديثة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن