هذا المشهد الذي يوحي باستهتارٍ أميركيّ ببعض العرب وابتزازٍ ماليّ للبعض الآخر ليس سوى جزءٍ من الصورة. ففي هذه السرديّة عليك أن تقنع بالعبارات المعروفة عن العجز والتخاذُل العربي "وهو صحيح" ولكن لا يفسِّر كلّ شيء. فالتقدّم نحو مسار التفاوض في التعامل مع طهران وأنقرة والبقاء في مسار الحرب في التعامل مع العرب فلسطينيًا ولبنانيًا وسوريًا لا تفسّره فقط الهيمنة الأميركية والإسرائيلية من جهة أو مهارة الإيرانيين والأتراك في استخدام ما لديهم من أسلحة وأدوات ضغط من جهة ثانية، ولكن يحتاج إلى تأمّل حقيقة المواقف العربية التي يُراد لنا أن نرْكن في فهمها إلى السّائد من أنّهم عاجزون عن الفعل وأنّ الفعل كلّه بِيَدِ اللاعبين الآخرين.
المثال الذي يستحقّ التأمّل واختبار دقّة فرضية أنّ العرب مفعولٌ بهم طوال الوقت، هو المفاوضات الأميركية / الإيرانية. فهذه المفاوضات تجري بين بلديْن هما الأشدّ عداوةً منذ سقوط نظام الشّاه الموالي للغرب، لكنّ واشنطن فضّلت في هذه المرحلة إدارة هذا الصراع بالوسائط السياسيّة. بعبارةٍ أوضح، فإنّ المتفق عليه هو أن السبب الرئيسي لتفضيل ترامب التفاوض هو رغبته بمنع أي حرب مع إيران قد تقود إلى انفجار الشرق الأوسط وخلق تهديدٍ جسيمٍ للعلاقات الدولية.
ترامب التاجر يضع وزنًا كبيرًا في حساباته لدول الخليج الغنيّة
في منع الحرب مع إيران، ذكرت معلومات أنّ ترامب أوقف هجومًا كان نتنياهو خطّط للقيام به الشهر المقبل، بل إنّه رتّب إجراء المفاوضات مع الإيرانيين ضدّ إرادة الإسرائيليين ومن دون علمهم. هذه الإهانة السياسيّة من ترامب لنتنياهو كشفت أنّ تماهي الإرادة الأميركية مع الإرادة الإسرائيلية كما هو حاصل في حرب الإبادة في غزّة ليس قانونًا. وكشفت أيضًا أنّ واشنطن عندما ترى أنّ مصالحها في خطر من سلوكٍ إسرائيليّ ما تقوم بلَجمه كما هو الحال في التفاوض الحالي مع إيران. كلّ الأسباب التي قيلت في تفسير انحياز ترامب لخيار التفاوض مع إيران صحيحة ومنها رغبته في عدم التورّط بحربٍ في مستنقع الشرق الأوسط ستذهب فيها أرواح أميركيين ومئات المليارات. ومنها أنّ عملًا عسكريًا ضدّ البرنامج النووي لن يقضي تمامًا عليه كما أنّه سيدفع الإيرانيين حتمًا للتحوّل للسلاح النووي وهم الذين ظلّوا مقيّدين فيه حتى الآن بفتوى لقائدهم تحظّر التحوّل نحو القنبلة النووية.
لكنّ السبب الأهم الذي لا يُذكر كثيرًا كدافعٍ رئيسيّ من دوافع ترامب في تفضيل التفاوض مع الإيرانيين لمنع الحرب هو سبب عربي ونتيجة فعل عربي بما يشكّك في مقولة أنّ عجز العرب عن استخدام ما لديهم من أوراق هو عجز مطلق.
كلّ المعلومات تؤكّد أنّ دول الخليج العربية - كلّ على حِدة - أبلغت الأميركيين رسالةً واحدةً أنّها لن تقبل بشنّ حربٍ على إيران في هذه المرحلة على الأقل. لا يرجع هذا للتوحّد في نظرة دول مجلس التعاون الخليجي لطبيعة علاقاتها مع النظام الإيراني، لكن لأنّها جميعها استشعرت أنّ حربًا مثل هذه ستدمّر الاستقرار والرفاهية وخطط التنمية لدى نُخبتها الحاكمة والتي باتت في معظمها نخبة أحفاد المؤسّسين. قد لا يحسب ترامب التاجر وزنًا كبيرًا في قراراته الشرق أوسطية للدول العربية الفقيرة أو المأزومة اقتصاديًا، ولكنّه يضع وزنًا كبيرًا في حساباته لدول الخليج الغنيّة. كما جعل الإيرانيون الأمر واضحًا للجميع في المنطقة، أنّهم إذا ماتوا بسبب حربٍ تشنّها أميركا أو إسرائيل لن يموتوا وحدهم وأنّ إغلاق مضيق هرمز والهجوم على القواعد الأميركية في دول الخليج ومنشآت النفط وكلّ ما له قيمة لدى واشنطن وحلفائها العرب سيكون هدفًا للانتقام؛ "الرسالة استُقبلت على أنّها تهديد حقيقي ونُقل للأميركيين أنّ مصالحهم الهائلة في الخليج التي يحميها استقرار النّظم السياسية الصديقة التي تضمن تدفّق النفط وعوائده المالية للغرب ستكون في خطر هائل".
بعبارةٍ أوضح، فهم دونالد ترامب - الذي سيزور ثلاثًا من دول الخليج الشهر المقبل، ومعه وعود بالحصول على 2 - 3 تريليون دولار من أموال دول الخليج - أنّ إتمام هذه الصفقات الهائلة مشروط مشروطيّة كبيرة بمنع نشوب حرب على إيران سيمتدّ نارها - أو لن يتوانى الإيرانيون عن جعلها تمتدّ - لباقي دول المنطقة.
تفسير الإخفاق العربي في وقف الإبادة والتجويع في غزّة ليس في القدرة ولكن في العقيدة السياسية
إذن توجد قدرة على الفعل لدى العرب، وهذا الفعل قادر على إحداث تأثير في السلوك الأميركي وبالتالي في السلوك الإسرائيلي. أيّ أنّ العرب كانوا وما زالوا قادرين بأوراق الضغط نفسِها على اشتراط حصول واشنطن على هذه المصالح بإنهاء حرب العشرين شهرًا على غزّة والوصول لتنفيذ مبادرة السلام العربية بدولةٍ فلسطينيةٍ مستقلة.
لكنّ هذه المشروطيّة لم تُعقد أبدًا بدليل الإخفاق العربي في وقف 19 شهرًا من الإبادة والتجويع في غزّة. تفسير هذا إذن ليس في القدرة، ولكن فيما يُمكن وصفه بالعقيدة السياسية الموجودة لدى النّخبة الحاكمة الحالية في معظم البلدان العربية والخليجية. فمن يتابع كتابات المُرتبطين بهذه النّخب يرى بوضوح أنّ هذه العقيدة ترفض من دون مواربة المطلب الشعبي العربي بربط تقديم تريليونات الخليج لترامب بإنهاء حرب غزّة وحلٍ عادلٍ للقضية الفلسطينية. يقول هؤلاء إنّ هذه التريليونات تتمّ في سياق العلاقات الثنائية مع واشنطن وكلّ دولة خليجية على حِدة، وإنّ هدفها تحقيق مصالح هذه الدولة مع الأميركيين على أساسٍ ثنائيّ، ولمّا كان منع الحرب مع إيران هو مصلحة مباشرة لاستقرار دول الخليج فإنّ المشروطية وُضعت.
القضية الفلسطينية تراجعت إلى مركز متأخر في أولويّات الكثير من النّخب الحاكمة ومثقّفيها
بمقارنة ذلك بالامتناع عن استخدام أي ورقة ضغط مماثلة في حرب غزّة فإنّه يمكن الاستنتاج أنّ المسألة أكثر تعقيدًا من تفسيرات التخاذُل والعجز العربي المكرّرة. فهناك أدلّة على أنّ النّخبة الحاكمة في الكثير من البلدان العربية والتي نشأت وتولّت مقاليد الأمور في مرحلة ما بعد الحروب العربية - الإسرائيلية النّظامية، مرحلة ما بعد اتفاقيات الصلح في كامب ديفيد، هي نخبٌ كوّنت عقيدةً لا ترى القضية الفلسطينية كأولويةٍ لسياستها الخارجية. نُخبٌ لا ترى أنّه فرض عليها كما كان على آبائها أن تضع معيارًا لعلاقاتها الدولية والإقليمية.
بعد نحو نصف قرن من مغامرة السادات بالذهاب إلى القدس، يمكن القول إن القضية الفلسطينية تراجعت إلى مركزٍ متأخرٍ في أولويّات الكثير من النّخب الحاكمة ومثقّفيها. إنّ القول بأنّ الرّغبة في عدم إغضاب واشنطن هو السبب الوحيد لعدم نصرة الفلسطينيين ربّما يفتقر إلى الدقّة ولا بدّ من الاعتراف بأنّ العقيدة السياسية للعديد من نخب صنع القرار العربي تبدّلت، فهُم يرون القضية عبئًا وأنّه على الفلسطينيين الجلوس مع الإسرائيليين وحلّ قضيتهم بأنفسهم.
(خاص "عروبة 22")