صحافة

التقارب الأمريكي الإيراني المدهش!

خالد عكاشة

المشاركة
التقارب الأمريكي الإيراني المدهش!

لم ترصد التقارير التي تتابع العملية العسكرية الأمريكية الموجهة ضد جماعة "أنصار الله" الحوثيين في اليمن، أي تداخلات إيرانية ذات بال كنوع من الإسناد لأحد أهم أذرعها بالمنطقة، بل وأبعد من ذلك حتى الإسناد الإعلامي الإيراني غائب إلى حد كبير. حيث تبدو الصورة وكأن هناك توافقا من نوع ما جرى اعتماده تحت الطاولة بأن العمليات العسكرية الأمريكية، ماضية في طريقها لتقليم إمكانيات ميليشيا الحوثي بالكيفية التي تفضي في النهاية إلى نزع قدرتها، على تهديد حركة الملاحة الدولية في البحر الأحمر.

الترتيب لمشروع التفاوض الأمريكي الإيراني الأخير جرى قبل اللقاء الأول في مسقط بشهر تقريبا، اللافت أن الإعداد لمجمل المشروع لم يأت على ذكر ما يجري في اليمن من قريب أو بعيد، وكأنه أمر بعيد عن الملف، رغم أن الحقيقة المعلومة للجميع ولطرفي المشروع التفاوضي بالأخص أن الأمر ليس كذلك. لذلك فيما يبدو هناك توافق جرى تمريره في صمت؛ بأن على جماعة الحوثي أن تكتفي بما أوصلتها إيران لها من قدرات خلال الأعوام السابقة، وعليها أن تواجه مصيرها منفردة أمام حملة التقويض الأمريكية لهذه القدرة في التهديد.

وفي طيات هذا الصمت المتبادل، يمكن استنتاج المدى الأمريكي الذي لن يتجاوز نزع قدرات التهديد الملاحي فحسب، دون الوصول إلى الإزاحة الكاملة من مجمل المشهد اليمني الذي لم ينضج بشأنه أفكار بعد، يمكن لها أن تشتبك مع معضلته السياسية والأمنية التي تحتاج لمسارات أشمل وأبعد من مسألة التأمين الملاحي، لكن في كل الأحوال يبقى فك الارتباط الإيراني بهذه القضية خطوة على الطريق. هذا مشهد قريب الصلة إلى حد ما فيما يخص وضعية "حزب الله" في لبنان، وإن كانت الترتيبات بشأنه تختلف جوهريا عن الحوثي اليمني بالنظر إلى الجوار الجغرافي المباشر لإسرائيل، فالأخيرة أكثر تداخلا في المعادلة اللبنانية، فالجيش الإسرائيلي عمليا مازالت قواته داخل الجنوب اللبناني (5 نقاط عسكرية) في مساحات لم يجر التوافق بشأن مصيرها حتى الآن.

اجمالا تكشف خريطة التداخلات إلى ان معالجة الوضع اليمني هو بكامله في العهدة الأمريكية، مع وجود إسرائيلي محدود بالصيغة الاستشارية وسماح أمريكي بتبادل المعلومات معها فيما يخص عملياتها هناك، بينما الوضع معكوس بين الحليفين على صعيد الجبهة اللبنانية، لكن الثابت أن هناك خطوات ملموسة ومؤثرة دفعت إيران لها قبل الذهاب إلى سلطنة عمان، وقد اعتبرتها طهران ثمنا مقبولا في إطار إثبات حسن النوايا وبناء الثقة الذي كانت في حاجة إلى سداده إلى إدارة الرئيس ترامب.

العاصمة الإيطالية روما شهدت الجولة الثانية من المفاوضات رفيعة المستوى بين الوفدين الأمريكي والإيراني حول البرنامج النووي الإيراني، وسط تفاؤل حذر بشأن إمكانية التوصل إلى حل دبلوماسي، لكن ما أعقب هذه الجولة من تصريحات ومواقف متبادلة من الطرفين، يشير إلى أن الأمر يبدو تجاوز الحذر إلى مساحات أبعد في التوافق عبر جولتين فصل بينهما أسبوع واحد، وينتظر أن تجري الثالثة خلال ساعات. سلطنة عمان التي يبدو لديها الشفرة اللازمة، عادت بقوة لتلعب دور الوسيط بين الفريق الأمريكي بقيادة المبعوث الخاص ستيف ويتكوف، والفريق الإيراني بقيادة وزير الخارجية عباس عراقجي، في مسقط، وفي مقر سفارتها بروما.

ليأتي التعليق الأمريكي من إدارة الرئيس ترامب معبرا عن رضا وتفاؤل، مشيرة إلى أنه "تقدم جيد جدا" وإلى اتفاقهما على الاجتماع مرة ثالثة وبشكل عاجل. جولة روما استغرقت (4 ساعات) في مفاوضات مباشرة وغير مباشرة، وعبر وزير الخارجية الإيراني عراقجي في المقابل أنها "أكثر من إيجابية"، كون هناك توافق وتفاهم أفضل بشأن بعض المبادئ والأهداف جرى اعتماده في مفاوضات روما، وهذا اختراق كبير وملموس بعد جولتين فقط استغرقتا ساعات في كل منهما!

إيران تعتبر الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه عام 2015، والمعروف باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة" بين إيران والقوى العالمية بما في ذلك الولايات المتحدة، أجندة دروس مستفادة، لكنه يبقى غير كاف في المرحلة الراهنة. كما تؤكد طهران بأن حقها في تخصيب اليورانيوم يظل حاضرا، لكنها تدخل التفاوض هذه المرة وهي على استعداد لتقديم مساحة أكبر من التنازلات، مقابل تخفيف العقوبات لتخفيف الضغط على اقتصادها المتضرر بشدة.

وهذا الاعتبار بات يكتسب أولوية في الداخل الإيراني للحد الذي دفع المفاوض الإيراني، إلى أن يغازل واشنطن بالذهاب أبعد من ذلك عبر الحديث عن إمكانية لفتح الأبواب أمام الاستثمار الأمريكي مستقبلا، في المجالات الاستراتيجية الكبرى للدولة الإيرانية مثل مشروعات الطاقة "النفط والغاز"، ومجال التحديث التكنولوجي لعديد من الكيانات والنشاطات المتأثرة بشدة من سنوات العقوبات، هذه أصابها تخلف وتعثر قد يفيدها مستقبلا إلى حد كبير دخول أمريكي واسع في عمليات تحديث واسعة.

وهنا إيران تتحدث عن عقود إستراتيجية طويلة الأمد لن تنقل مؤسساتها نقلة نوعية إلى الأمام فحسب، إنما فتح هذا الباب في تلك المرحلة المتقدمة من المفاوضات هو عمليا يضع أمام المفاوض والإدارة الأمريكية، آفاقا جديدة كليا للعلاقة المنتظرة بين واشنطن وطهران، ناهيك عن المكاسب المنتظرة التي ستضبط تلقائيا بوصلة فريق التفاوض، ومن ورائه الإدارة التي تتفهم جيدا كيف يمكنها صناعة الصفقات الناجحة.

الرئيس ترامب علق منذ أيام على جولة روما بقوله؛ إنه لا يتطلع إلى ضربات عسكرية وشيكة ضد المنشآت النووية الإيرانية، وقد أكد ـ للمرة الثانية ـ أنه شخصيا، منع إسرائيل من القيام بمثل هذا العمل العسكري: "لست في عجلة من أمري للقيام بذلك، لأنني أعتقد أن لدى إيران فرصة لأن تكون دولة عظيمة، وأن تعيش بسعادة". هذا هو خيار الرئيس الأمريكي الأول، وقد أعرب عن أنه يريد أن يرى ذلك بشدة.

رئيس الفريق الأمريكي ويتكوف قبيل جولة روما، التقى سرا في باريس "رون ديرمر" وزير الشئون الإستراتيجية وأقرب شخصية لرئيس الوزراء بنيامين نيتانياهو، ومدير الموساد "ديفيد برنياع" ونقل لهم تطمينات الرئيس ترامب بأنهم يسيرون على الطريق الصحيح، مشفوعا بطلب حاسم بعدم تخريب هذا المسار بأي صورة.

(الأهرام المصرية)

يتم التصفح الآن