تغيرات إستراتيجية تنتظر العالم بعد خسارة الولايات المتحدة جولة حاسمة في الحرب التجارية العظمى، وبدء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في التراجع عن النسب المرتفعة للرسوم الجمركية، التي كانت قد شملت جميع الدول، ثم جمدها باستثناء الصين، التي أعلنت أنها ستخوض الحرب حتى النهاية.
فلم تتحمل إدارة ترامب أكثر من أسبوعين، شهدت فيهما البورصات الأمريكية أسوأ أيامها، بتراجعات متتالية لأكبر شركاتها، وارتباك في سلاسل التوريد، وصراخ لكثير من الشركات لخسائرها الجسيمة، ووجهت الصين لكمة قوية بوقف تصدير المعادن النادرة، التي تدخل في العديد من الصناعات الإستراتيجية، مثل الطائرات والسيارات ورقائق التكنولوجيا وألواح الطاقة الشمسية والبطاريات والمغناطيسيات، ورفض الرئيس الصيني الرد على طلبات متكررة من الرئيس الأمريكي بالتحدث، بعكس ما كان يتمنى ترامب بأن تأتي الدول المفروض على صادراتها الرسوم الجمركية راكعة، ليفرض شروطه عليها تباعا.
لكن ما حدث كان مؤلما لإدارة ترامب، التي وجدت قطاعات كثيرة تتراجع، والتضخم يرتفع، والدولار يهبط من عليائه، وسط مخاوف من ضربات أقوى تضرب السندات الأمريكية، والتي ستكون أشد إيلاما إذا أقدمت الصين على بيع ولو جزءا مما تحمله من سندات الديون الأمريكية، فمن شأنها أن تحدث حالة من الذعر في الأسواق المالية، ستكون نتائجها أكثر سوءا، لكن الصين لم تكن في عجلة من أمرها، ويبدو أنها كانت أكثر استعدادا للحرب التجارية من إدارة ترامب، وهو ما يفسر حالة التخبط في القرارات، مما يؤكد أنها لم تكن محل دراسة متأنية.
فالقرارات الأمريكية ألحقت ضررا أشد بأمريكا عمن استهدفتهم، وكان من نتائجها المزيد من الانقسام في الداخل الأمريكي، واندلاع خلافات بين ترامب ورئيس المصرف الفيدرالي الأمريكي، وارتفاع أصوات كبار رجال الأعمال المعترضين على قرار رفع الرسوم الجمركية، بعضهم من أقرب المقربين للرئيس الأمريكي، واندلعت مظاهرات ضد سياسات ترامب في نحو 120 مدينة أمريكية، ليزداد الوضع الداخلي ارتباكا تكاد تصل إلى الفوضى، كما فقدت واشنطن أقرب حلفائها، أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى كندا والمكسيك، لتشعر الولايات المتحدة أنها في عزلة، ويمكن أن تستغل الصين الفرصة، سواء لإحكام الضغوط على الولايات المتحدة، أو توجيه المزيد من الضربات إليها.
وهناك تساؤلات كثيرة حول آلية صنع القرار في الولايات المتحدة، وما إذا كانت تعلم أنها لم تكن مؤهلة للاستغناء عن وارداتها من الصين، وأنها لا تملك البدائل عن السلع والمكونات الصينية، بينما يمكن للصين أن تستغني بسهولة عن وارداتها من الولايات المتحدة، ومعظمها من الحبوب واللحوم والغاز والنفط، والبدائل أمامها كثيرة، ويمكنها استيراد الحبوب واللحوم من البرازيل واستراليا وكندا والأرجنتين، أما الغاز والنفط فالبدائل أوسع، من روسيا وإيران ودول الخليج وكندا.
أما أخطر ما حدث في الجولة الأولى للحرب التجارية فكان فقدان الثقة في الولايات المتحدة، وتشمل الثقة في الدولار الذي بدأ يفقد دوره كمخزن للقيمة، مما جعل معظم البنوك المركزية في العالم تتسابق على شراء الذهب بديلا عن الدولار، وامتدت حمى شراء الذهب إلى الشركات والأفراد، ولو ارتفعت الحرارة قليلا، وزاد فقدان الثقة لانهار الدولار ومعه قطاع المال الأمريكي، العمود الفقري للولايات المتحدة.
ولم يتوقف فقدان الثقة عند الدولار، بل في الاستثمار داخل أمريكا، وفي السياسات الأمريكية التي لا تتوانى عن التخلي عن حلفائها، بل تضغط عليهم، وتلحق بهم الخسائر. وأظهرت المفاوضات الأمريكية مع اليابان مدى قسوة الشريك والحليف الأمريكي، الذي وضع جملة من الشروط الصعبة على صادرات وعملة اليابان وعلاقاتها التجارية، وهو ما أغضب اليابانيين، وعطل التوصل إلى اتفاق، بينما أظهرت إدارة ترامب ليونة مفاجئة تجاه الصين، وتحدث ترامب عن فرص للتفاهم والتوصل إلى حلول مرضية للجانبين، مبديا استعداده لخفض الرسوم الجمركية على السلع الصينية إلى 50%، لكن الصين مازالت عند مواقفها، وترى أن ما يعلنه ترامب ليس كافيا لبدء مفاوضات، وأن على الولايات المتحدة التراجع عن قراراتها.
ربما تقود اللهجة الجديدة اللينة لإدارة ترامب إلى فتح كوة في الجدار، وأن تؤدى إلى تهدئة في الأسواق العالمية، تحد من الخسائر الأمريكية، وإلا فإن جولات أخرى ستكون أكثر تدميرا. وفي كل الحالات فإن الولايات المتحدة خسرت الكثير، ليس في أصولها الاقتصادية فقط، بل في ثقة يصعب أن تستعاد، تجعل الولايات المتحدة أضعف من أي وقت مضى، بما يشجع على كسر الحاجز النفسى في مواجهتها، لتبدأ صفحة جديدة في التاريخ تتراجع فيها الهيمنة الغربية.
(الأهرام المصرية)