قبل نحو نصف قرن، شكلت إيران الركيزة الاستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، حيث أتيح لطهران لعب أدوار إقليمية وازنة، لجهة حماية المصالح الاستراتيجية لواشنطن. الآن الأمر تحول إلى افتراق وعداء بعد الثورة التي أطاحت نظام الشاه محمد رضا بهلوي، اذ تسارعت موجات العداء إلى حد الاصطدام المباشر في العديد من الحالات.
وتشكل اليوم المفاوضات الأمريكية الإيرانية غير المباشرة، مفصلاً جديداً في بيئة العلاقات البينية التي يحاول الطرفان التماس معالمها والبناء عليها، تحت عناوين معلنة كملف البرنامج النووي، الذي لا يعتبر في الحقيقة سابقة في بناء علاقات طهران الإقليمية والدولية، فالبرنامج النووي، سبق وأن بدأ العمل به إبان حكم الشاه وتوقف بعد الثورة، إضافة إلى عناوين مضمرة أو أقله رفض طهران التحدث فيه بصوت عال، كالبرنامج الصاروخي وهو عملياً الأخطر في بيئة المفاوضات القائمة حالياً أو السابقة، علاوة على وسائل القوة التي اعتمدتها إيران في دعم العديد من القوى في غير مكان من الدول العربية.
ففي السياقات التاريخية أقدمت واشنطن في العام 1984 بإدراج طهران على قائمة الدول الراعية للإرهاب، حيث أعلن الرئيس جورج بوش في العام 2002، أنّ إيران والعراق وكوريا الشماليّة تُمثّل "محور الشرّ"، وتزامن هذا التصريح مع اتّهامات لطهران بإدارة برنامج سرّي للأسلحة النوويّة. وبعد سلسلة من المحادثات السريّة والمفاوضات المباشرة وغير المباشرة، توصّلت طهران ومجموعة 5+1 (أمريكا، وفرنسا، وبريطانيا، وروسيا، والصين، وألمانيا) في فيينا في تموز(يوليو) 2015 إلى ما سُمّيَ الاتّفاق النوويّ JCPOA الذي وافقت بموجبه طهران على الحدّ من أنشطتها النوويّة مقابل تخفيف العقوبات الاقتصاديّة. إلّا أنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحب من الاتّفاق في مايو/ أيار 2018 وأعاد فرض العقوبات القاسية على إيران، حيث أتى ردّ إيران في مايو/ أيار من العام ذاته بزيادة إنتاج اليورانيوم المخصّب.
أمّا إجراءات الرئيس فلم تقف عند الحدود السياسيّة والاقتصاديّة، حيث أعطى بتاريخ 3 يناير/ كانون الثاني العام 2020 الأمر المباشر لتنفيذ عملية اغتيال اللواء قاسم سُليماني وأبو مهدي المهندس. إلّا أنّ تأزّمَ الوضعِ لم يمنع التواصل غير المباشر لاحقًا، حيث عقد الطرفان اعتباراً من إبريل/ نيسان العام 2021 العديد من جولات المحادثات غير المباشرة في فيينا، عُلّقت في خريف العام 2022 بسبب رفض إيران العودة إلى نسبة التخصيب التي حدّدها الاتّفاق النوويّ ب 3.67٪، فيما كانت طهران قد رفعتها إلى 60٪، وفي المقابل رفضت واشنطن رفع العقوبات عن الحرس الثوريّ وشطبه من قائمة المنظّمات الإرهابيّة.
تفاقمت العلاقات الأمريكية الإيرانية وبدت شديدة التوتّر في منتصف العام 2023، حيث وصلت قوّات من المارينز إلى الخليج لحماية السفن التجاريّة، مقابل قيام الحرس الثوريّ بنشر طائرات وسفن وصواريخ في جزيرة أبو موسى. إلّا أنّه بعد وساطاتٍ عُمانيّة - قطريّة، تمّ الإعلان بتاريخ 10 أغسطس/ آب 2023 عن التوصّل إلى اتّفاق يقضي بالإفراج عن مليارات الدولارات الإيرانيّة المُجمّدة في كوريا الجنوبيّة وتحويلها إلى أحد المصارف القطريّة مقابل تبادل مُحتجزين بين الدولتيْن.
الأمر الذي انعكس إيجاباً على الوضع. ولكن مرحلياً، وتحديداً حتّى السابع من أكتوبر/تشرين الأول و "عملية طوفان الأقصى"، جمدت الصفقة والمحادثات المُحتملة حول العودة إلى الاتّفاق النوويّ، لاسيما في ظلّ تأزّم الوضع في البحر الأحمر بسبب تهديد حركة أنصار الله للسفن الإسرائيليّة. وقد استدعى هذا التطوّر، إلى عقد مُحادثات سريّة غير مباشرة بين واشنطن وطهران في مسقط في يناير/كانون الثاني العام 2024، حيث طلبت الولايات المتّحدة من إيران استخدام نفوذها لوقف هجمات أنصار الله.
في الواقع لقد أدى الزلزال السوري وتغيير النظام هناك، إلى تغيير هائل في موازين القوى في المنطقة، الأمر الذي دفع إلى عودة المفاوضات بين الطرفين الأمريكي والإيراني في مسقط، ومن ثم تتابعت في روما، والجديد فيها انطلاقها لاحقاً على مستويين سياسي وتقني عبر لجان متخصصة، ما يعني أن ثمة بيئة قابلة للبناء عليها لاحقاً، وسط رغبة مشتركة للتوصل إلى اتفاق أقله حول البرنامج النووي عبر تدابير تزيل موجات القلق الإسرائيلية وتشرك أطرافاً دولية كروسيا والصين كضمان لإبقاء ما يمكن التوصل إليه، قابلاً للحياة.
ثمة عناصر أخرى غير معلنة في المفاوضات الجارية من بينها البرنامج الصاروخي الذي سبق لإيران أن رفضت التحدث فيه في جولات المحادثات السابقة، إضافة إلى دور إيران وبخاصة حرس الثورة في المنطقة ومستوى وكيفية التعاطي مع حلفائها، وهي قضايا تلامس قضايا شديدة الحساسية في الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة.
من حيث المبدأ، إن ظروف المنطقة المستجدة، دفعت طهران وواشنطن للبحث عن مسارات مشتركة بهدف التوصل إلى تصور أو حل في مهلة محددة مداها أواخر مايو/ أيار القادم. وفي الواقع إن التدقيق في ذلك، يظهر توازي فرص النجاح أو عدمه في التوصل لحلول مقبولة، خاصة أن الفشل سيأخذ المنطقة وربما العالم إلى حروب ونزاعات لن تتوقف عندها، لتشمل بقاع العالم بأسره، وهي ظروف ستكون تداعياتها كارثية على العالم للأسف.
(الخليج الإماراتية)