كما أنّ أحد أفراد طاقم دفاع إسرائيل في الدعوى المرفوعة ضدّها من جنوب أفريقيا في "محكمة العدل الدولية" وصلت به الصفاقة إلى حدّ اتهام مصر بأنّها هي التي تمنع المساعدات عن غزّة، فضلًا عن الاتهام الكاذب للمفاوض المصري بأنّه غيّر في محتوى العرض الذي وافقت عليه إسرائيل في إحدى جولات التفاوض قبل نقله لـ"حماس"، وهو عمل مستحيل بالنّظر لأن إدارة بايدن كانت شريكًا كاملًا في العملية التفاوضية، ولم يصدر عنها أدنى تأييد للزّعم الإسرائيلي.
كانت الدّلالة الواضحة لكلّ هذه الأكاذيب أنّ ثمّة خللًا في دوائر صُنع القرار الإسرائيلي يجعلها ترفع معلوماتٍ غير صحيحة لصانع القرار الإسرائيلي، وهو ما يعني خللًا جسيمًا في عمليّة صُنع القرار، لأنّ أوّل مقوّمات القرار السليم هو المعلومات الصحيحة الكاملة والدقيقة.
رئيس وزراء إسرائيل يكذب كما يتنفّس وعلينا أن نتعامل مع أطروحاته على هذا الأساس
وتواصلت الشواهد بطبيعة الحال بعد ذلك على مؤشرات الكذب الإسرائيلي كما حدث على سبيل المثال عندما اكتُشِف بعد وقف إطلاق النار في يناير/كانون الثاني الماضي أنّ بعض من أذاعت المصادر العسكرية الرسمية الإسرائيلية قتلهم من مقاتلي "حماس" ظهروا على قيد الحياة في عمليات تسليم الأسرى الإسرائيليين التي تلَت ذلك الاتفاق، غير أنّ هذه الواقعة لا تساوي شيئًا إذا ما قورنت بفضيحة نتنياهو بعد التّصريحات الأخيرة ليوآف غالانت وزير الدفاع الإسرائيلي السابق.
ففي 22 أبريل/نيسان الماضي، اعترف غالانت بأنّ الصورة التي نُشرت على نطاقٍ واسعٍ من جانب الجيش الإسرائيلي، والتي زعم أنّها تُظْهِر نفقًا كبيرًا في ممرّ صلاح الدين (فيلادلفيا) كانت مضلِّلة، وكانت الصورة لمركبة عسكرية من المفروض أن تكون خارجةً من فتحة نفقٍ يسمح بمرورها، واستُخْدِمَت هذه الصورة على نطاقٍ واسعٍ لتبرير الاحتلال الإسرائيلي للممرّ والتمسّك به. وبولغ في تصوير أهمّية هذا الاكتشاف، وكيف أنّه نفقٌ ضخمٌ مكوّنٌ من 3 طوابق، فضلًا عن كونه جزءًا من شبكة أنفاق واسعة تحت الأرض أذهلت القوات الإسرائيلية وفقًا للادّعاءات آنذاك.
غير أنّ الفضيحة بدأت تتكشّف شيئًا فشيئًا، فقد أجرت "هيئة البثّ الإسرائيلية" تحقيقًا خلال شهر أبريل/نيسان كشف أنّ الصورة لم تكن لفتحة نفقٍ هائلٍ في محور صلاح الدّين، وإنّما لخندقٍ صغيرٍ مغطّى بالتراب، والأكثر أهميةً ودلالةً وخطورةً أنّ غالانت أكّد هذه الحقيقة، ولفت إلى أنّ النّفق المزعوم لم يكن سوى قناة تصريف عادية، وأنّ المركبة العسكرية الظاهرة في الصورة وُضِعَت ببساطةٍ لتعزيز ذلك الوهم، وخدمة غرضٍ سياسيّ مفاده إبراز تهديدٍ مُفْتَرَضٍ يُشكّله ممرّ صلاح الدّين، بما يبرّر العمليات العسكرية فيه بحجّة تعطيل تهريب الأسلحة.
الواقع أنّ الكذبة كانت مفضوحةً من البداية، فكلّ من تابع عمليات المقاومة في غزّة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وشاهد في بعضِها خروج المقاتلين من فتحات الأنفاق يعلم أنّ هذه الفتحات بمستوى سطح الأرض، وليست بارزةً على النّحو الذي أبرزته الصورة، ولكنّها آلة الدعاية الإسرائيلية التي درجت على الكذب والإمعان فيه.
الائتلاف الحاكم في إسرائيل يستحلّ كل شيء وأي شيء من أجل الاستمرار في الحُكْم
غير أنّ دلالات الفضيحة التي فجّرها تحقيق هيئة البث الإسرائيلية وأيّدتها تصريحات غالانت تثير قضايا بالغة الخطورة، أوّلها أنّنا إزاء رئيس وزراء إسرائيلي يكذب كما يتنفّس، ومن ثمّ فعلينا أن نتعامل مع أطروحاته على هذا الأساس، وثانيًا أننا إزّاء "ديموقراطية" مريضة إذا جاز التعبير، فلو حدثت هذه الواقعة في أي بلدٍ يتّسم نظام حُكْمه بالدّيموقراطية حقًا لطار رأس هذا النظام من فوره لكذبه في أمور تتعلّق بأمن دولته، بتوريطها في مواجهات عسكرية مُكلفة بشريًا وعسكريًا وسياسيًا بناءً على أكاذيب، لكنّها الطبيعة العنصرية المتطرّفة للائتلاف الحاكم في إسرائيل، والذي يستحلّ كل شيء وأي شيء من أجل الاستمرار في الحُكْم.
يبقى أن تستخدم الأطراف الفلسطينية والعربية هذه الفضيحة وغيرها في المواجهة السياسية والديبلوماسية والإعلامية مع إسرائيل في هذه المعركة الشرسة التي ستحدّد نتائجها أمورًا مهمةً بالنسبة إلى مستقبل فلسطين والنظام العربي.
(خاص "عروبة 22")