لكنّ تلك "الفنتازيا" تحدث، والمُلفت أنّ هذا الانقلاب على قواعد السوق الحرّة، وإنْ كان عنوانه الحالي سياسات دونالد ترامب، إلّا أنّه جرى التمهيد له أميركيًا قبل سنوات في محاولةٍ تدريجيةٍ للتنصّل من تلك القواعد بما يخدم المصالح الأميركية ونفوذها ومنتجاتها.
شعار "دعه يعمل دعه يمر" الذي فرضته واشنطن على العالم الثالث في طريقه ليكون شعار مرحلة سابقة
نحن هنا في المنطقة العربية مطالَبون بأنْ نسأل: هل تغيّرت القواعد؟ أم أنّ القواعد لم تكن يومًا سوى واجهةٍ تخدم الهيمنة حين تصبّ في مصلحة الأقوى؟ والإجابة معروفة وواضحة لكنّ الأرجح أنّها تحتاج إلى أن تتصدّر في عقول نُخَبٍ عربيةٍ طالما تعاملت مع المبادئ الإقتصادية الغربية التي لم تخلُ أبدًا من استغلال واحتكار وضمان تفوّق، وكأنّها النصوص المقدّسة التي لا يجوز تعديلها أو الاقتراب منها!.
حسنًا... ها هي "كعبة" الاقتصاد الحرّ وقدس أقداسِه يحطّمها "أبرهة الترامبي" من دون أن تتساقط عليه "حجارة من سجّيل"، وها هو شعار "دعه يعمل، دعه يمر"... الذي حملته واشنطن في حقيبتها عبر البحار، وفرضته على العالم الثالث من خلال "روشِتّات" البنك الدولي وصندوق النقد، وجعله بعض قادة العرب مرادفًا للحداثة، بينما كانوا يبيعون المصانع، ويقلّصون الدعم، ويُقنّنون التفاوت الطبقي باسم "الإصلاح"، في طريقه ليكون شعار مرحلة سابقة، أو نظام عالمي في أوان الزوال.
دونالد ترامب لم يكن لحظةً عابرةً، بل هو تجسيدٌ لتحوّل أعمق في أميركا: من زعيمةٍ للعوْلمة إلى مدافعةٍ عن "القوميّة الاقتصاديّة"، ومن مروّج لحرّية السوق إلى مَن يحتمي بالجدران الجمركية ويُغرِّدُ ضدّ الشركات التي تنتقل إلى الخارج.
لم يكن جو بايدن استثناءً، إنما هو عزّز الروح نفسَها، لكن بوجهٍ أكثر ديبلوماسيةً وقبولًا. أقرّ قانون "خفض التضخّم" الذي يقوم عمليًا على دعم الصناعات المحلّية والتضييق على سلاسل التوريد الصينية، تحت راية "الأمن القومي" و"التحوّل الأخضر"، لكنه ليس بعيدًا عن شعار "لا تدعه يعمل، لا تدعه يمرّ".
العالم العربي الذي لطالما خضع لوصفات السوق الحرّة بوحيٍ أميركيّ يجد نفسَه اليوم في قلب زلزال عالمي
المفارقة الساخرة أنّ الصين - التي طالما وُصمت بأنّها عدوّة السوق ووريثة اقتصاد مركزي شيوعي - باتت تُقدّم نفسَها كمدافعةٍ عن التجارة الحرّة، وتحذّر من "الحمائية الغربية"، وتُرحّب بالاستثمار الأجنبي في حين تُغلق واشنطن أبوابها أمام شركات صينية عملاقة.
فماذا عن العرب؟.. العالم العربي، الذي لطالما خضع لوصفات السوق الحرّة بوحيٍ أميركيّ، يجد نفسَه اليوم في قلب زلزالٍ عالمي: العوْلمة تنهار، التجارة العالمية تُعيد تشكيل خرائطها، سلاسل التوريد تتقافز بين شرق آسيا وأميركا اللاتينية، والنظام العالمي يترنّح يبحث عن ملامح جديدة، بينما لا ذِكْر للعرب في ملامح أي نظام جديد سوى كونهم معابرَ للبضائع من الشرق إلى الغرب من دون قيمةٍ حقيقيةٍ أو كلمةٍ مسموعة.
في مواجهة الشيوعية، روّجت الولايات المتحدة لاقتصاد السوق الحرّة بوصفها بديلًا أفضل وأكثر أخلاقيةً من الاقتصاد المُخطّط، وربطت بين الحرّية الاقتصادية والديموقراطية.
ومع رونالد ريغان في الولايات المتحدة ومارغريت تاتشر في بريطانيا، عاد الحماس لمبدأ "دعه يعمل، دعه يمرّ" لكن بصيغةٍ نيوليبيرالية، والتي تدعو إلى: خصخصة المؤسّسات العامة. تقليل الإنفاق الحكومي. تحرير التجارة. تقليل الضرائب. تقليل القيود التنظيمية. والتدخّل في السياسات الاقتصادية للدول الأخرى.
وفرضت الولايات المتحدة سياساتٍ نيوليبيراليةً على الكثير من دول أميركا اللاتينية، أفريقيا، والشرق الأوسط، غالبًا عبر شروط القروض والمساعدات والترويج للعوْلمة الاقتصادية، وإنشاء منظّمة التجارة العالمية، والدفع نحو إلغاء الحواجز الجمركية أمام البضائع والخدمات.
ما الذي حصدناه؟.. نموّ اقتصادي غير متكافِئ، تفاوت طبقي صارخ، تآكل الطبقة الوسطى، مديونية خانقة، تفكيك الدول، وإضعاف الاقتصادات الوطنية لصالح نخبٍ مرتبطةٍ بالسلطة والغرب. أَنتج نظامًا يخدم النُّخب، لا الشعوب... ويمنح الولاء الاقتصادي لواشنطن، لا للأوطان.
الفرصة متاحة لنُعيد النّظر في نموذج التنمية ذاته كخيار وطنيّ لا كاستنساخ لنموذج غربيّ أو شرقيّ
اليوم في هذا المشهد، لم يعُد النموذج الأميركي الليبيرالي مغريًا كما كان، ولا النموذج الصيني مُخيفًا كما كان. صار على العرب أن يُدركوا أنّ الانحياز الإيديولوجي الأعمى لم يعُد صالحًا، وأنّ الاعتماد المُطلق على "السوق" بالوصفة الأميركية التي انقلب عليها ترامب، أَفضى إلى الانكشاف الكامل، ولا جريمة في الخروج من أسْر وصفاتٍ هدفها الوحيد ربط مصير ومستقبل الشعوب بسياساتٍ انتهازيةٍ تستهدف الهيْمنة وتجد مَن يروّجون لها ويستفيدون منها على حساب الشعوب.
الفرصة الآن - وسط هذا التحوّل - متاحة لنُعيد النّظر في نموذج التنمية ذاتِه: لا كاستنساخ لنموذجٍ غربي أو شرقي، بل كخيارٍ وطنيّ يُوازن بين الاقتصاد والمجتمع، بين الإنتاج والعدالة، بين السّوق والدولة، لصالح كلّ الناس وليس بعض النّخب، وبقرارٍ مستقلٍ وسياديّ. نموذج "اقتصاد سوق اجتماعي" قد يكون نقطة الانطلاق؛ اقتصاد منفتح لكنّه عادل، تنافسي لكنّه إنساني، تقوده الدولة من دون أن تخنقه.
ها هي التجربة الماثلة تقول إنّ مَن يرفع شعار "دعه يعمل... دعه يمرّ" قد يكون أوّل من يكسر قاعدته، متى ما توقّفت عن خدمته.
لم تتغيّر المبادئ؟ لكن انكشفت وظيفتها!.
(خاص "عروبة 22")