صحافة

غزة بين "سنغافورة عرفات" و"ريفييرا ترامب"!

ناجي صادق شراب

المشاركة
غزة بين

القاسم المشترك بين سنغافورة والريفييرا أن غزة على صغر مساحتها التي تقارب الـ360 كيلومتراً مربعاً، وبأكبر كثافة سكانية في العالم تقارب المليونين ونصف المليون نسمة وبخصائصها الجيوسياسية والتي يغلب عليها الصيف والاعتدال طوال السنة، وبساحل ممتد على البحر المتوسط بطول يقارب ال40 كيلومتراً، والخصائص السكانية التي غلب عليها الاعتدال وثقافة التسامح والتعايش المشترك والطابع التجاري والاستهلاكي. كل هذه الخصائص تجعل من قطاع غزة أنموذجاً لتكرار الخيار السنغافوري ونموذج الريفييرا. فالريفييرا الفرنسية تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط ومن أهم مدنها نيس، وتتميز بجمال طبيعتها وساحلها وظروفها المناخية التي تتماثل مع غزة.

لكن الاختلاف كبير بين خيار سنغافورة وريفييرا ترامب التي يسعى إليها الآن بعد حرب تجاوزت سنة ونصف السنة اتسمت بالإبادة الشاملة وتدمير كل مقومات البقاء والحياة وتحويلها إلى منطقة غير صالحة للحياة. الغاية من ريفييرا ترامب استيطانية احتلالية استعمارية، ونزع غزة من الجسد الفلسطيني وتفريغها من سكانها وهم مصدر قوتها، وتحويلها إلى منطقة سياحية لغير سكانها، وهدفها الأساسي سياسي يتماهى مع أهداف إسرائيل بإغلاق كل ملفات القضية الفلسطينية من خلال إغلاق ملف غزة وشطب اسمها واكتسابها اسماً آخر، فالغاية هنا لا تتفق مع الريفييرا نفسها وذلك بتهجير سكانها وتشتيتهم في دول مختلفة وغير متجانسة وبعيدة، وهنا الخطر الأكبر للتهجير، وهو تفكيك المفهوم الأسري المجتمعي لغزة.

إنه مخطط يهدف إلى خلق منطقة غربية وفرضها على الأرض التي تحتضن الآلاف من الشهداء الذين ستهتز بهم الأرض برفض اقتراح ترامب الغريب إنسانياً وسياسياً وأخلاقياً. إن قيمة وعظمة غزة بهذا التجانس والتفاعل والاندماج والانصهار بين سكانها. فهذه المساحة الصغيرة خلقت هوية متميزة ومتفردة على امتداد التاريخ، إننا في غزة أمام أنموذج وهوية لا نجدهما إلا فيها عبر كل مراحل التاريخ، وأهم سماتهما التعايش والتكامل والوحدة البشرية والمجتمعية بين كل سكانها من مسلمين وأقباط.

أما خيار سنغافورة الذي تحدّث عنه الرئيس الراحل ياسر عرفات فهو الأقرب لخصائص غزة بكل مقوماتها وصفاتها. والسؤال هنا لماذا لم تتحول غزة إلى سنغافورة فلسطين والعرب؟ولماذا تحوّلت إلى حالة من الحروب المتواصلة مع سيطرة حماس عليها عام 2007، حيث بدأت تطفو صفات غير صفاتها وخيارات غير خيارتها على السطح. فالحرب ليست خياراً لغزة، والمقاومة المسلحة ليست من خصائص غزة، فمن منظور خصائصها الجغرافية والسكانية والاقتصادية تصلح غزة أنموذجاً تنموياً مدنياً، أما خيار الحرب فكما نرى في الحرب الحالية التي راح ضحيتها أكثر من خمسين ألف شهيد، وتم تدمير كل مقومات الحياة فيها بهدف تهجير أبنائها قسراً بحثاً عن حياة جديدة.

والسؤال ثانية، ما الحل والبديل والحيلولة دون التهجير القسري أو الطوعي؟ الإجابة السريعة: هو النموذج السنغافوري التنموي وليس فقط السياحي. ولقد سمعت غزة بسنغافورة من الرئيس الراحل عرفات عندما عاد ومعه قيادات المقاومة والآلاف من الشعب الفلسطيني إلى غزة في أعقاب اتفاقات أوسلو، لحظتها أعلن أن غزة ستتحول إلى سنغافورة فلسطين والعرب، مدركاً ومقتنعاً أن غزة تملك كل المقومات التي تؤهلها إلى ذلك. ولو نجحنا في بناء نموذج غزة - سنغافورة لتفادينا كل الحروب والخلافات الفلسطينية، وقدمنا للعالم أنموذجاً لفلسطين المستقبل الذي يقوم على الديمقراطية والسلام والتنمية، والكفيل بإنهاء الاحتلال، ولكانت غزة نواة للدولة الفلسطينية.

وقبل المقارنة وما آلت إليه غزة من فقر ومجاعة وبطالة ومعاناة بشرية وحروب مدمرة، فهل تملك غزة مقومات النموذج والخيار السنغافوري الذي تحدث عنه الرئيس عرفات؟ الإجابة "نعم"، ويكفي العنصر الشبابي الذي يشكل قوة الدفع لعملية تنموية واسعة، بحكم نسبة التعليم أولاً. والسؤال لماذا لم يتحول هذا الاقتراح إلى واقع وحقيقة رغم توفر كل الظروف في البداية بانسحاب إسرائيل من غزة؟ بعيداً عن أهداف إسرائيل التي لا تريد أن ترى أنموذجاً فلسطينياً ناجحاً ينزع منها كل المبررات التي تدعي أن الفلسطينيين لا يصلحون للبناء السياسي وتغلب عليهم صفة الإرهاب والعنف، هناك قدر من المسؤولية يقع على الفلسطينيين أنفسهم مع وصول السلطة إلى غزة، ثم مع وقوعها في قبضة حماس.

لا شك أن الفرصة قد أتيحت لنموذج غزة سنغافورة مع قدوم السلطة وتدفق مليارات الدولارات كمساعدات لم توظف توظيفاً صحيحاً في المشاريع التنموية والتعليمية والصحية وإقامة البنية التحتية التي تؤمّن القوة، وتمكّن الإنسان التنموي المبدع، فغلبت مظاهر الفساد والطابع الأمني لينتهي الأمر بانقلاب حماس وسيطرتها على غزة عام 2007، وفرض الحكم الديني، فزادت فجوة الفقر والبطالة والرغبة في الهجرة بحثاً عن العمل والآمان.

السؤال مجدداً، ما البديل والحل بعد هذه الحرب المدمرة؟ الإجابة بالعودة ثانية للإعمار وفق النموذج السنغافوري التنموي المعاصر، وأساسه العنصر البشري الفلسطيني، والحفاظ على بقاء السكان كرد على دعوات التهجير، وتوسيع رقعة التنمية وإقامة الحكم المدني وإعادة تأسيس الإنسان على قيم الإنتاج والتعايش المشترك والتسامح، ونبذ العنف ورفض خيار الحرب. هذا هو الحل لغزة - سنغافورة بإنسانها الجديد.

(الخليج الإماراتية)

يتم التصفح الآن