الذّكاء الاصطناعي والمِهَن العربية!

إنّ الحياة المُجتمعية المُعاصرة في بلداننا العربية، بتفاعلها مع ثقافتنا الموروثة، وطبيعة التفكير الاستهلاكي العربي، فرَضت علينا أنواعًا وأنماطًا مُعيّنةً من المِهَن والأعمال العامّة والخاصّة؛ وهي اليوم الأكثر انتشارًا في عالمنا العربي في شرق وغربه، ونكاد نجدها تنحصر تحديدًا في تلك الوظائف الحكومية والخدمات العامة التي ترتبط بالدعم المادي والمعنوي من الدولة، أو المِهَن الإنتاجية الاستهلاكية بشكلٍ أو بآخر، ومِهَن المواصلات والنقل العام والخاص، والتخزين، والتسويق؛ ناهيك عن وظائف التعليم بمختلف مستوياته، ويدخل في حكم هذه المِهَن بطبيعة الحال، المِهَن الأكثر تفضيلًا في مجتمعاتنا العربية، مثل المِهَن الطبيّة، والهندسيّة، والقياديّة في مختلف المجالات، وبالأخصّ المِهَن التي لها علاقة مباشرة بالأعمال المالية المتنوّعة.

الذّكاء الاصطناعي والمِهَن العربية!

الحقيقةُ المؤلمة والمحزنة، إلى حدٍّ ما، أنّ هذه المِهَن عمومًا يحلُّ محلَّها التطوّرُ الحالي للذّكاء الاصطناعي، باقتدارٍ وتميّزٍ طاغٍ، ذلك أنّ تصميم الخوارزميات الفائقة، فاقَ التوقعات والاحتمالات من عهدٍ قريبٍ، حيث أصبحت الخوارزميات مفاجِئةَ القدرات والإمكانيات، وأضحت تكتسحُ بل وتغتصبُ بشكلٍ ما تفكيرَنا الإنساني، وتحدِّدُ مُحدّدات الاختيار والقرار البشري شيئًا فشيئًا، حتى بِتنا نعتقد أنّه ربما يأتي اليوم الذي يتقاعدُ فيه العقلُ البشريّ الطبيعيّ أو يستقيلُ تمامًا عن أداء مهامه وتحمّل مسؤولياته، ارتكانًا إلى جهود الآلة الصّناعية، وريثةِ الإنسان، التي صنَعَها بنفسه، وسلّمها مفاتيحَ التطوّر والتغيّر، وربما - والحال كما نرى - تركَها سائمةً، تفعلُ أفاعيلَها في حاضره، وتتسيّدُ بصورةٍ أو بأخرى على مآلاتِ مستقبله!

إنَّ هذا التطوّر المُتسارع، والذي يبدو اللّحاقُ برصدِهِ وتحليلِهِ من جميع جوانبه، بعيدَ المنال، نتيجةَ سرعتِه، وتشابكِه، وتوالدِ نتائجِه في حياتنا اليومية، وبخاصّةٍ في عالَمنا العربي، لا يُخفى بأيِّ وجهٍ من الوجوه، تهديدُه المباشر لحياتِنا الوظيفية! حيث أكثرُ المِهَن لدينا قابلةٌ للاندثار والتجاوز الآلي، لأنّها ذات طبيعة روتينية، ويمكن تعلّمُها بقليلٍ من الجهد، ثم تتأطّر في تكرار أنماطها التطبيقية بشكلٍ معتاد.

المِهَن المُهَدَّدة والأقرب للاختفاء في السنوات المقبلة مُعظمُها من المِهَن التي يزاولها العرب

الأمر نفسه مع المِهَن التي لا تعتمد كثيرًا على الإبداع والابتكار المُتواصل، والمِهَن الحِرفية المُعتمِدة على الأداء العضلي، أو المِهَن المتوارثة والتي يَسهل تعلّم فنّياتها وتطبيقاتها المتطوّرة نسبيّا. هذا بالإضافة إلى المهن المستوردة بحذافيرها، هذه التي نستورد أسرارَها المعرفية معلّبةً، ونقبلُها كما هي على عِلاّتها، نؤدّيها، ونمارسها بكلّ ما تتضمّنه من نماذج ثقافية تتغذّى على تطورات نماذجها الثقافية الأصلية في مجتمعاتها المبتكِرة لها.

إذا ما ألقينا نظرةً سريعةً على هذه المِهَن المُهَدَّدة، ونحاول تحديد الأكثر منها تعرّضًا للتوقّف أو الأقرب منها للاختفاء في السنوات المقبلة، وليس هذا ببعيدٍ إطلاقًا، نجدُ مُعظمَها من قبيل المِهَن التي يزاولها العرب ويعتمدون عليها بشكلٍ مباشرٍ، باستمرار. على سبيل المثال وليس الحصْر: مِهَن الإدارة، والتجارة، والبيع في المتاجر، والمحاسبة، والإحصاء، والدعاية والإعلان، والجرد، والتفتيش، والتعليم، والتحليل، وكتابة التقارير، والتدقيق اللغوي، والمحاماة، والرعاية الصحية... إلخ.

على ذلك، ستغزونا الخوارزميات المُتقدّمة في مجال التمويل في شتّى جوانبه؛ مثلًا: في تحليل البيانات المالية، وتنبّؤات اتجاهات السوق، والتوصيات الاستثمارية، واكتشاف الاحتيالات المالية... إلخ. والأمر نفسه في مجال الأعمال الاستشارية المختلفة، واسترجاع المعلومات وتركيز المعرفة، والدورات التدريبية المُحَسَّنة، والتعليم التكيّفي حسب الحاجة... إلخ.

المطلوب تعزيز الأعمال والمهَن والوظائف الحاليّة بما يُناسبها من التطوير الآلي والذكاء المُصنَّع والبرمجيات المتخصّصة

ما الحلّ إذن؟ ما العمل في عالمنا العربي؟ ما هو المطلوب القيام به سريعًا في مواجهة كلّ هذه التهديدات وغيرها، في الدول العربية من دون استثناء!

باختصارٍ شديدٍ، المطلوب هو الاتجاه في مساريْن متوازييْن من التطوير والتغيير الوظيفي.

أوّلُهما: التعزيزُ في مقابل الاستبدال. أي تعزيز الأعمال والمِهَن والوظائف الحاليّة بدلًا من استبدالها كليًّا. وذلك من خلال تزويدها بما يُناسبها من التطوير الآلي، والذكاء المُصنَّع، والبرمجيات المتخصّصة فائقة التطور، المطلوبة بشكلٍ واسعٍ في مجالاتها المحدَّدة مثل مجالات التصنيع والإنتاج، والبحث والتطوير (R&D).

ثانيهما: بناءُ الكوادرِ المُتمكِّنة في مجالاتٍ بعينِها. بمعنى إعداد المؤَهّلين ذوي الكفاءة والجدارة الاستيعابية والابتكارية في مجالاتٍ وتخصّصاتٍ عصريةٍ، أضحت ذاتَ أولوية حاضرة ومستقبليّة، وخصوصًا المِهَن الاحترافية في الأمن الآلي (السيبراني)، والتجارة الرّقمية، والحوْسبة السّحابية، وإنترنت الأشياء، وهندسة الذّكاء الاصطناعي، وكتابة المحتوى الرّقمي. فضلًا عن المِهنيّين الاحترافيين الجديرين بوظائف متقدّمة بعينها، مثل: مُحلِّل البيانات data analyst))، وعالِم البيانات (data scientist)؛ حيث يقوم مُحلِّل البيانات بجمع البيانات، وتنظيفها، وتحويلها، ودمجها، والمساعدة على تصميم ودعم مسارات البيانات عالية الأداء، فضلًا عن مساعدته في "نمذجة الخوارزميات". بينما عالِم البيانات، هو أكثر إتقانًا وتمكُّنًا من تقنيات البرمجة المتقدّمة، وأدوات الحوْسبة، وتطوير نماذج البيانات، والخوارزميات. هذا إلى جانب وظائف مصمّمي المواقع الافتراضية المعزَّزة (enhanced)، ومصمّمي الروبوتات، وما شاكَل.

ضرورة تفعيل القدرات البشرية المحلية والتركيز على تطوير إمكانيات الابتكار والإبداع الذّاتي

غير أنَّ جميع هذه الوظائف المطلوبة بإلحاح، والمِهَن التي تفرضُ نفسها وتتحدّانا في مختلف المجالات الإنتاجية والخدمية والمجالات الداعمة لها، لا يمكن الإفادةُ منها نهضويًّا في مجتمعاتِنا العربيةِ المتطلِّعةِ إلى النهوضِ والازدهارِ الحقيقيِّ، إلّا بتبنّيها وتفعيلِ أنشطتِها في ظِلِّ 6 اعتباراتٍ رئيسية، وهي:

1 ــ أن يكون لدينا منظور اقتصادي - بشري، تنموي، متكامل.

2 ــ أن تُفتحَ جميع سُبُل التعاون الشامل بين مؤسّسات الدولة.

3 ــ ضرورة تفعيل القدرات البشرية المحلية، بشكلٍ خاص.

4 ــ التركيز على تطوير إمكانيات الابتكار والإبداع الذّاتي.

5 ــ الاهتمام بثقافة المؤسّسات تقنيًّا، والعمل الجماعي المشترك.

6 ــ تعزيز قِيَم العمل والإنتاج والخدمة الناجحة، والالتزام بأخلاقيات المِهنة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن