وَجَبَ أن نتساءل إذن: أوّلًا على وجه العموم؛ كيف تُواجه البورجوازيات هذا الواقع الذي تتحرّك فيه منذ عقود؟ وثانيًا على وجه الخصوص؛ كيف تُمارس حرّيتها الاقتصادية وتحفظ الإنتاج الوطني وتُنمّيه في ظلّ "التقسيم الدولي للعمل"؟ وكيف تجعل من السياسة وسيلةً لتقدّم قدراتها الإنتاجية والتسويقية؟ وكيف تتخلّص من المُعيقات الثقافية التي تحول دون تحرّر الإنتاج وتحقيق قابليّته للتنمية والتحديث؟.
هناك دعوات اقتصادية وسياسية وثقافية لا تَحُدّها حدود الضرورات، تُخاطب الحكومات والدول والأجهزة السياسية والاقتصادية بلغة الإملاءات؛ هذه الدعوات تُعبّر عن أملٍ على أبعد تقدير. أمّا الحلول فتُراعي الضرورات، لأنها ترجو إمكان التنزيل والتنفيذ.
البورجوازيات العربية مُطالَبة بالتقدّم وتنمية إنتاجها بتدرّج مع الحرص على "اختصار الزمن الاقتصادي"
على وجه العموم؛ تتحرّك البورجوازيات العربية خاضعةً لضرورتيْن: ضرورة داخلية، وأخرى خارجية. إنّها في حاجة إلى تحديد سقف حركتها في الداخل والخارج معًا، بمعنى أنّها في حاجة إلى معرفة المساحات التي يسمح هذا السقف باختراقها وتحديثها. كلّ حركة خارج هذا المنطق في التفكير والتخطيط تُبقي البورجوازيات العربية حبيسة موقعيْن: موقعٌ تحاول فيه اختراق سقفها الموضوعي فتبوء محاولتها بالفشل، وموقع تلتزم فيه سقفًا أقلّ مما هو مطلوب ولا يعكس مدى قدرتها وحاجة المجتمع إلى تقدّمها الممكن. ومعرفة البورجوازيات العربية لحدودها الموضوعية يتطلّب قدرًا كافيًا من الخبرات والمعطيات، الأمر الذي يفرض استثمار قدرٍ من أرباحها لتطوير هذه القدرات لديها.
اقتصاديًا؛ نقترح مناقشة مسألتيْن بالغتَيْ الأهمّية في العلاقة بوتيرة تطوّر البورجوازيات العربية:
المسألة الأولى: الحدود الاقتصادية التي يفرضها "التقسيم الدولي للعمل" دوليًا ووطنيًا، وهذه حدود غير قابلة للتجاوز خارج قواعد الاقتصاد، أي خارج قواعد النظام الاجتماعي الرأسمالي العالمي. إنّ البورجوازيات العربية - بهذا الخصوص - مُطالَبةٌ بالتقدّم وتنمية إنتاجها بتدرّج ووفق ما تسمح به ضرورة هذه القواعد، مع الحرص على "اختصار الزمن الاقتصادي" باستثمار التناقضات الرّأسمالية ومستجدات النظام الاجتماعي الرأسمالي من أزمات وتغيّر في السياسات الاقتصادية الكبرى (مثل تغيّر السياسات الاقتصادية الأميركية في ولاية ترامب الثانية).
المسألة الثانية: الحدود السياسية على الاقتصاد الوطني، أي الحدود التي تفرضها الأنظمة السياسية على التقدّم "الطبيعي" للرّأسمال الوطني. والمطلوب في هذه الحالة، هو مراعاة الحدود الضرورية بما هي حفظٌ للدولة بالنظام السياسي، وتجاوز تلك التي لا تخدم تقدّم المجتمع كما لا تخدم النظام السياسي ذاته.
وضع البورجوازيات العربية الحالي يحول دون تبلْورها سياسيًا في ظلّ النظام السياسي العربي
على المستوى السياسي؛ المُلاحظ يهمّ تحديث سياسة يسمح به التقدّم الاقتصادي مستقبلًا، وحالت ظروف البورجوازيات العربية بينها وبين إفراز ليبيراليتها (حداثتها) السياسية المكتملة. وهنا يكفينا السؤال عن أحزابها وأطروحاتها السياسية وعملها الحقوقي... إلخ؟ لا وجود لذلك، وإن وُجِدَ فهو ضئيل وهجين يعكس واقع البورجوازيات العربية كما هو. ربّما يحول وضعها الحالي دون تبلْورها سياسيًا في ظلّ النظام السياسي العربي، ولكن محوّلات من هذا النوع ضرورية لاعتباريْن: لتأسيس قابلية مؤسّساتية وسياسية لتحديث سياسي يسمح به التقدّم الاقتصادي مستقبلًا، لممارسة نوعٍ من الضّغط على بنى التقليد السياسي المعرْقلة لتقدّم قوى الإنتاج الوطني.
الازدواجية تُربك التحديث وتُعرقل مساره في بنيتيْه السياسية والاقتصادية
وبخصوص الرّهان الثقافي للبورجوازيات العربية، فيتطلّب الخروج ما أمكن، ووِفق ما تسمح به الضرورة السياسية والاقتصادية، من حالة الازدواجية التي تُربك التحديث وتُعرقل مساره في بنيتيْه السياسية والاقتصادية.
إنّها حالة من "تداخل أنماط الإنتاج" و"التعدّد المجتمعي" - كما يُسمّيها عالِم الاجتماع المغربي بول باسكون - بقدر ما هي قد تكون ضروريةً وغير قابلةٍ للنّفي الموضوعي والملموس في بعض جوانبها وفي الشرط الحالي؛ بقدر ما هي كذلك فإنّها تُبقي المجتمع العربي حبيس "مظاهر جزئية من مجتمعاتٍ عديدةٍ تتعايش أحيانًا في اللحظة نفسِها والمكان نفسِه. هكذا ينتمي فردٌ معيّنٌ وحسب سلوكاته المُختلفة إلى مجتمعات عدّة (نور الدين الزاهي، المدخل لعلم الاجتماع المغربي، دفاتر وجهة نظر 20، الطبعة الأولى، 2011، ص 70).
(خاص "عروبة 22")