بينما تتوغل قوات الاحتلال الإسرائيلي في جنوب سوريا وتعلن بصفاقة منقطعة النظير مسؤولية حماية الدروز السوريين، ومنع أي وجود أمني أو عسكري في جنوب دمشق، وتأكيد نية البقاء في منطقة عازلة بعمق 80 كيلومترا على طول الحدود مع سوريا، كما تقصف محيط القصر الرئاسي في رسالة تحذيرية لرئيس سوريا الجديدة، وتسيطر على المجال الجوي السوري، وتتعدد الغارات على مواقع وبنية تحتية مدنية وعسكرية، رغم كونها ضعيفة ومحدودة الإمكانات.
تبدو الإدارة السورية الجديدة في حيرة من أمرها، فما تبقى من قدرات عسكرية موروثة من النظام السابق، لا تتيح أي قدر من المواجهة العسكرية ولو الرمزية لقوات الاحتلال الإسرائيلي، ولا تتوافر لديها قدرات معقولة لصد الغارات الإسرائيلية الوحشية، والرهان على مساعدة عسكرية من الجارة تركيا يبدو متعثرا وغير قابل للتحقيق في المدى القريب.
الضغوط العسكرية الإسرائيلية التي ازدادت كثافتها على سوريا الجديدة هي امتداد لما سبق، والفارق مع الوضع السوري الراهن، يتضح في استراتيجية تل أبيب الجديدة، والتي استفادت من سقوط نظام الأسد وخروج إيران من المعادلات السورية اقتصاديا وعسكريا، وانكماش الدور الروسي، باعتبارها تحولات تمثل فرصة لا تعوض لإثبات المقولة التي يكررها نيتانياهو بقدرة إسرائيل، التي لا ترد على إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وترسيخ الأمن والردع والقضاء على مصادر التهديد المحتملة للكيان الإسرائيلي.
تغول تل أبيب على سوريا كما هو الوضع القائم في قطاع غزة، والتهديدات التي لا تتوقف تجاه إيران وبرنامجها النووي، وفي الخلفية دعم أمريكي غير مسبوق عسكريا وسياسيا ودبلوماسيا، تضع سوريا والإقليم أمام تحديات كبرى قابلة للانفجار. وتبدو رغبة الرئيس ترامب في تقليص الوجود العسكري الامريكي في شمال سوريا نقطة محورية في مستقبل سوريا، ففي حال الخروج الأمريكي الكلي، والاعتماد على الدور التركي كما ألمح الرئيس ترامب عدة مرات، بهدف سد الفراغ في شمال سوريا الذي تسيطر عليه قوات سوريا الديمقراطية "قسد" الكردية.
ومع استمرار غياب صيغة دستورية وقانونية مقبولة من كل الأطراف، تحدد مصير المناطق الكردية السورية في ظل الإدارة الجديدة برئاسة أحمد الشرع، الجولاني سابقا، سواء كانت ذات سمات فيدرالية كما تطرح "قسد"، او كانت ذات صيغة مركزية تعني خضوع المناطق الكردية السورية للمركز في دمشق، فإن احتمالات الصدام والمواجهات الموسعة مع أي قوات تركية تعمل على توسيع مجال سيطرتها على الشمال السوري الكردي، تبدو مرجحة بقوة.
الخروج الأمريكي حال حدوثه، سيوفر بدوره حجة لتل أبيب لمزيد من الادعاء بمسؤوليتها المباشرة تجاه الأقليات السورية، لاسيما الدروز في جنوب سوريا، أو الاكراد في شمال البلاد، وبينما تستطيع إسرائيل أن تمارس تلك المسئولية المزعومة على دروز سوريا الذين يقبلون التعاون مع الاحتلال الإسرائيلي لاعتبارات جغرافية والتقارب المكاني، فإن الادعاء بحماية أكراد سوريا، قد يأخذ أشكالا سياسية وتأجيج المواجهات العسكرية عبر تهريب الأسلحة للشمال السوري، وإثارة الفوضى وإفشال فرصة إعادة بناء سوريا على أسس توافقية بين مكوناتها السياسية والدينية والعرقية.
التحديات في سوريا لا تقتصر على تلك الاحتمالات المرتبطة أساسا بالتدخلات الخارجية وتحولاتها الفجائية، ونتائجها الخطرة وغير المحسوبة جيدا، بل تمتد إلى الداخل السوري ذاته، سواء مواقف المكونات السورية كالدروز والعلويين والأكراد في الشمال، وجميعها لديها الكثير من الشكوك تجاه توجهات الإدارة السورية الجديدة، سواء لأسباب دينية أو طائفية، أو استشعارا بمخاطر الخضوع لنظام تسوده توجهات دينية وفق تفسيرات معينة، تمثل امتدادا للتوجهات والقناعات الفكرية لـ"هيئة تحرير الشام" التي باتت القوة المسيطرة على سوريا الجديدة، وهي توجهات تتميز بالتشدد والرفض تجاه الغير المختلف مذهبيا، والذين ينظر إليهم كامتداد لنظام الأسد، وهم محل إدانة، ما يثير القلق لدى غير تابعي الأفكار السلفية الجهادية، سواء من السنة أو من المذاهب والطوائف الأخرى.
علاوة على أن ممارسات الجماعات المسلحة التي ساندت "هيئة تحرير الشام" في إسقاط نظام الأسد، وتجاوزاتها في مواجهة الأقليات المختلفة، كما حدث في الساحل السورى حيث ينتشر العلويون، وفي مناطق الدروز جنوب دمشق نهاية ابريل المنصرم، تتصادم مع المبادئ التي أعلنها الشرع سابقا بشأن نية الانفتاح على كل المكونات السورية، ومحاسبة المخطئين وحسب عبر الأطر القانونية، الامر الذي يجعل اليقين بأن سوريا الجديدة لكل أبنائها، معلّق في الهواء.
لقد كان الاتفاق بين أحمد الشرع الرئيس المؤقت مع القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية "قسد" مظلوم عبدي في العاشر من مارس الماضي، خطوة بدت مبشرة بتحولات مهمة وإيجابية في علاقة المركز بالمكونات السورية المختلفة. إذ أكد الاتفاق أن المجتمع الكردي مكون أصيل من مكونات الشعب والدولة، والعمل على اندماج قوات "قسد" في الجيش السوري ومؤسسات الدولة الأخرى، وسيطرة المركز على العوائد الاقتصادية للشمال السوري لاسيما الناتجة عن النفط، مع تخصيص جزء منها لمناطق الأكراد. والأهم تأكيد وحدة سوريا وخضوعها لسيادة واحدة.
الاتفاق على النحو السابق ما زال يواجه عثرات التطبيق، حيث جاءت الوثيقة الدستورية التي أعلن عنها بعد ثلاثة أيام فقط من الاتفاق مع "قسد" متصادمة مع المبادئ التي اتفق عليها بين الشرع وعبدي، فبدلا من الانفتاح على مكونات المجتمع السوري، تم تركيز السلطة في يد الرئيس المؤقت لمدة خمس سنوات واستبعاد الأقليات مع عملية كتابة الدستور المؤقت، والاعتماد على لجنة من سبع شخصيات سنية، لم تعكس التنوع السوري. كما تفتقد الوثيقة إلى آليات عملية تسهم في بناء نظام سوري تعددي. ومن ثم بدلا من تجسيد صيغة جديدة لحكم مختلف عما ساد في نظام الأسد، بدت الأمور وكأنها نسخة أخرى مع شخصيات جدد.
(الأهرام المصرية)