لم يعد بإمكاننا تكوين مفاهيم للعيش الحرّ الكريم، فلا قدرة لنا على مفارقة السذاجة لإنجاز الفهم. لذلك صرنا نعيش بلا فهم، أي باستغناءٍ كُلِّيّ عن التعمّق في التحليل والنقد والتفكّر المتين لابتكار التصوّرات الراهنة عن الحرّية والوجود والسلطة والحياة والفرح وكلّ ما يمكن للإنسان أن يهنأ به، إذا ما تناوله بشجاعةٍ تُلغي الخوف وتُجاوِز السذاجةَ إلى أغوار الحقائق المغشّاة بأفعال الشرّ البشري المحض.
الخوف الرّاهن هو من القوّة لدرجة أنه استطاع تغليب السذاجة على القلق بمتعةٍ عند النّاس في مجتمعاتنا. وما يُشيّع اليوم هو ثقافة اللامبالاة، بل الرّضا والطاعة المخلوطة مع التفاهة والسطحية، بحيث أصبح الكائنُ الفرد يسير من دون انتباهٍ لما يجري من حوله إلا من جهة ما يحقّق له إمكان أن يصبِحَ متبوعًا بالحداثة والتقدّم البارزيْن في سلوك الآخر ومقتنياته وآلاته.
الفردُ عندنا لا يفكِّر بل يعرف ولا يحدِّد حاجتَه بل يشتري
لقد هاجر الفردُ عندنا لغتَه إلى لغةِ السّوق (الإنكليزية)، لأنّ ظهورَه المُواكب للعصر يكون باتّباع المألوف والسائد بسذاجة. والسذاجةُ هي الإفراط بالثّقة لدرجة نسيان السّؤال والاكتفاء بالحضور في المشهد. ونقول عن شخصٍ إنّه ساذج أخلاقيًّا أو سياسيًّا إذا بلغ مستوًى من التعامل مع الآخرين بنيَّةٍ حسنةٍ مفرطةٍ توازي الانبهار به لدرجة عدم الاكتراث بنوع الإنسانِ الذي نريدُ أن نكون عليه في هذا العالم، ومن دون توقّع الخداع أو الاستغلال من أصحاب المشاريع الرّبحية التي تعدُّ الإنسانَ واحدًا من أشيائها وليس قيمةَ القيم.
يعتقد الساذجُ أنّ العالم بسيط ويمكن الاشتراك في التعرّف إلى أشيائه بمجرّد اتِّباع طريقة الآخر في التغيير والتطوير والإبداع والابتكار، ويمارس عيشًا بسيطًا قائمًا على قناعةٍ بسهولة العيش عبر النّوايا الحسنة فقط، فيأكل ويشرب ويلبس ويتعلّم من دون التفاتٍ إلى ذاتِه، بل إلى حضور الآخر الكلّي في كِيانِه الخائف الساذج. وهنا يُدخِلُ، كلّ الوقت، أخلاقياتِه ومعتقداته الدينية مع سلوكيّاته الاتِّباعية للمظاهر التحديثية الراهنة، فيندمج بهذا الكلّ الاجتماعي من دون غايةٍ أو هدفٍ، أي يغادِرُ كيْنونة الكائن البشري القلق، هذا الذي يبادِرُ الوجودَ بالفعلِ من خلال بناء العلاقة الوجدانية مع الأشياء.
لقد أصبح الشخصُ الفردُ عندنا كتلةً مُثقلةً بالمعلومات والأخبار العادية، نراه كلّ الوقت حائرًا كيف يشتري ما هو دارِج، هو لا يفكِّر، بل يعرف، وهو لا يحدِّدُ حاجتَه، بل يشتري... لا شيءَ من صنعه.
نحن بحاجة إلى مغادرةِ الخوف الذي يُكرِّسُ السذاجة ويجعلنا خائفين من شدّة تأثير الآخر
هنا نلحظُ الفارق بين الاهتمام بالحداثة والانهمام القصدي بالفلسفة التي تنتجُها. فإذا كان الهمّ إثبات اشتراك الذّات ضمن المعيش، اقتصر الفكر على الحداثة واستعمال الآلات الجديدة ووسائل العيش والترفيه اليوم، لكن إذا جاوز الهمُّ عقدةَ إثبات اشتراك الذّات في العالم إلى قَلقِ التماهي بالفكر الحضوري عينه، سنلفى التفلسفَ الذي يفتح الأفق على إنبات مفاهيم تحتاج التفكّر والتحديث والاستكمال، لتثبت هذه العملية جدارتَها بالوجود الحرّ للإنسان في العالم.
إذًا نحن بحاجة إلى مغادرةِ الخوف الذي يُكرِّسُ السذاجة، ويجعلنا موهومين بالاشتراك في الحاضر وخائفين في الوقت نفسِه من شدّة تأثير الآخر في إدارة شؤون الذّات والتحكّم بمصيرها، وصولًا إلى تحديد وطنها بحسب الحاجة الاقتصادية الرّبحية، كما يجري في غزّة اليوم، أو في أي بقعة تتعرّض للحرب والقتل والدمار. سيأتي المُستفيدون من الحرب اليوم لتبديل السكانِ بمشاريع تجارية، فيُستَبدَل الإنسانُ بالمال، ويُنفى الإنسانُ مرةً أخرى إلى مجاهل خوْفه، أو يُستدعى بالقوة إلى الإقامة الساذجة في العالم.
السذاجة هي الغلوُّ في التنازُل عن القلق والتفكّر والتجدُّد، هي القبول الطوْعي بهجران اللسان والأوطان، إنّها الانبهار بالإقامة العبثية في لغةِ الآخر، إذ يفقِدُ الفردُ متعةَ الإقامة الحرّة في لغته، فلا يعود قادرًا أن يمارسَ قيمَه وأخلاقه وسياسته للعالم، كما يريد.
لا يمكنُ للجبان أن يستشرف مستقبل إقامته في العالم
هنا يكون الخوْف سيّد الموقفِ عند النفوس التي لا تدركُ قيمة التفكير الدّائم بالحضور، والخوف يولِّدُ التطرُّف لأنه يُبقي صاحبَه في القيم القديمة للعيش، أي في مكتسباته من الزمان السابق لزمانه اليوم. هذه الإقامة في الماضي تأتيه وهو منبهرٌ بالحضور كما الآخر، فيمشي مشيةَ الغُراب كما تروي الأقصوصة، ويغدو مُقلِّدًا لا يعرف كيف يبدع مشيته اللائقة. إنه كائنٌ يعيش على صدى التراثِ في ذاتِه، ويُذهَل سريعًا بطرائق الآخر في العيش المكين، لا يدرك أهمّية التفكير بالابتداءِ من ذاتِه لمبادرة الوجود.
نحن لا نثبتُ القديم في الجديد حين نتفلسف، بل نتجدّد فحسب لنغادِر الخوف إلى القلق اليانع. هذا التجدّد يتحقّق في لحظة العيش المفتوح على الممكن، أمّا أن تفرض سذاجتك على فكرِك الحاضر فهذه إماتةٌ تستحضرُ الخوفَ وتستمرِئُ العيشَ الجبان.
لا يمكنُ للجبانِ أن يستشرفَ مستقبلَ إقامته في العالم، بل الكائن المُغامر الذي يعي حجم إرادته في إحضار ذاتِه إلى بؤرة التفكير والإرادة.
(خاص "عروبة 22")