صحافة

انفجارات الجغرافيا الطائفية في سوريا والحلول المطلوبة

مثنى عبد الله

المشاركة
انفجارات الجغرافيا الطائفية في سوريا والحلول المطلوبة

بالأمس كان الساحل واليوم أطراف دمشق في جرمانا وصحنايا، حيث الاشتباكات الطائفية، والدعوات المفاجئة بتدخل قوات دولية، حسب تصريحات الشيخ حكمت الهجري زعيم طائفة الدروز في سوريا، مُدعيا أن طائفته تتعرض لهجمة إبادة غير مُبررة، على حد تعبيره. بينما تُحاول السلطات الجديدة إرسال رسائل طمأنة للجميع، ودمج الجماعات المسلحة في الأجهزة الأمنية، والتحرك على كل الأصعدة للنهوض بالبلاد والعباد من الواقع المرير الذي خلفه نظام بشار الأسد. فما الذي يحدث في سوريا بعد التغيير؟ ومن المستفيد؟ وما تداعيات الأحداث على وحدة وسلامة البلاد؟

إن في كل مرحلة انتقالية هناك توترات، وفي كل مرحلة انتقالية هنالك صعوبات جمّة، ولا يمكن أن يُطلب من السلطات الجديدة مُعجزات، والواقع السوري يقول إن هناك عصابات من كل المكونات وليست محصورة في مكون واحد. وأيضا هنالك السلاح المنفلت في كل مكان، والأخطر من كل ذلك هي عصابات إلغاء الآخر، التي تتسلل في الظلام وتقوم عمليات قتل وانتهاك، ما بعد كل اتفاق يحصل بين السلطة وأطياف المجتمع.

وفي كل مرة تُلام الحكومة لأنها لا تسيطر بالشكل الكافي على المجموعات المُسلحة، في حين، على مستوى القُدرة، الدولة السورية تبذل كل جهد منذ مؤتمر النقب، ثم مؤتمر الحوار الوطني فالإعلان الدستوري، وأخيرا إعلان الحكومة المؤقتة، رغم تحديات فلول النظام السابق في الساحل السوري، وما ارتكبته من مجازر بحق جهاز الأمن العام، وضربت السلم والوفاق الوطني. وقد تحقق مستوى جيد من الأمن والسلام، على الرغم من التحديات والعقوبات الدولية.

ولكن هناك أيضا حاجة لأن تتعاون الفصائل المكوناتية في السويداء وصحنايا وجرمانا، مع قوات الأمن العام لضبط الأوضاع، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه الأمن المُشترك ما بين الدولة والشعب. لكن في المقابل هناك فصائل مكوناتية أخرى، كانت متورطة في تجارة المخدرات والخطف والابتزاز، وقد وجدت نفسها في حالة فراغ بعد تغيير النظام، وأنها سوف تواجه الدولة، لذلك ذهبت إلى تدريع نفسها بحجة مطالب لمكوّن معين أو مذهب.

أما الدعوات التي انطلقت مطالبة بالحماية الدولية، فعلى الرغم من أنها لا تُعبّر عن رغبة كل الدروز، فهي دعوات مؤسفة ومُحبطة، لأنها تُدمّر النسيج الوطني، وتُعرقل أهداف الدولة السورية في الحفاظ على السلم والأمن الأهلي والنسيج المجتمعي. كما أنها تشكل فرصة ثمينة تستثمر فيها إسرائيل، لذلك وجدنا تصريحات وزيري الخارجية والدفاع الإسرائيليين يعزفان على النغمة نفسها، ففي حين دعا الأول إلى التدخل الدولي لحماية الدروز، قال الثاني إن إسرائيل سترد بقوة لحماية الأقلية الدرزية. ومهما كانت التبريرات التي قيل إنها تقف خلف هذه الدعوات فهو خطأ فادح ووهم كبير، فالتدخل الدولي لن يحصل والدليل أن الشعب السوري بقي يطلب الحماية الدولية لمدة 14 عاما ولم يحمه أحد.

وإذا كان البعض يُغازل إسرائيل لغرض التدخل، فهي لن تأتي، لأنه منذ عام 2017 حصل اتفاق بين ترامب وبوتين ونتنياهو حول حزام أمني لإسرائيل وهذا كل الموضوع، ولن يعنيها هذا أو ذاك بعد ذلك الاتفاق. صحيح إنها بدأت بقصف قرب المواقع السيادية السورية والمواقع العسكرية، لكنها لن تدخل بقواتها لحماية أحد، ولن تُكرر تجربتها المُرة في لبنان، عندما دخلت بحجة حماية المسيحيين في ثمانينيات القرن المنصرم، وهنا يجب التذكير بأن التدخل الغربي في منطقتنا العربية، منذ أواخر القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر وإلى اليوم، لم يأتِ على هذه البلاد إلا بالويلات.

إن الوضع السوري الحالي يتطلب من جميع المواطنين في مختلف المحافظات ومن جميع الانتماءات، أن يعلموا بأنهم مثل بقية المواطنين في أي مكان من الجغرافيا السورية، لهم ما لهم من حقوق وعليهم ما عليهم من واجبات. وفي المقام الأول يجب على الجميع رفض أية محاصصة طائفية أو عرقية في الدولة السورية الجديدة. فكون هذا سُني وهذا دُرزي وذاك علوي وذاك إسماعيلي، لن يستتبع هذه الأوصاف أي امتياز سياسي، أو اجتماعي، أو اقتصادي، أو حكومي، إنما هو اعتزاز ثقافي مُعين لا أكثر، وفي الوقت نفسه، فإن هذه التوصيفات، أو الهويات الفرعية، لا تحرم حاملها من أي حق من حقوق المُواطنة، ولا تسمح بالتعامل معه على أنه مواطن من الدرجة الثانية، وهذا كله يجب أن يكون له تطبيق على أرض الواقع، وليس كلاما وحسب.

كما أن هناك حاجة إلى إرادة قوية من الفصائل المكوناتية التي تعتقد إنها ستحمي نفسها بسلاحها، بأن لا حماية لأي مواطن سوري إلا بحماية الدولة السورية لهم، أما حمل أعلام مُختلفة دون العلم الوطني للدولة، وحمل أسلحة خارج إطار الدولة، والخروج عن مؤسسات الدولة، فإن هذه كلها ستؤدي الى تفتيت البلاد ووحدتها وسيادتها.

إن أسباب ما يحدث في سوريا يجب أن يُقال بصدق وبلا مُجامله وهو على مستويين. المستوى الأول هو حالة الاحتماء غير المُبرر للبعض بالطائفة، الذي شهدته سوريا منذ سقوط الأسد في 8 سبتمبر/ أيلول الماضي وحتى الآن. والسبب في ذلك هو الخلفية الأيديولوجية للسلطة الجديدة، وهذه الخلفية لا تُرضي البعض من الأقليات السورية، وترى فيها حالة من التشدد تُهددها، على الرغم من أن هذا الذي يسمونه تشددا لم يظهر إلى السطح بإجراءات تمس هذه الأقليات.

أما المستوى الثاني فهو عدم قدرة الإدارة الجديدة على حصر السلاح بيد الدولة، لدوافع معينة ذاتية وموضوعية، بعضها نزولا عند رغبة بعض شيوخ الدين، وكذلك رغبة بعض الفصائل، لذلك لم تتخذ الدولة أية إجراءات، حين مُنعت أرتال الأمن العام لأكثر من مرة، من دخول بعض المناطق التي تقطنها غالبية طائفية، وفضلّت الدولة الدبلوماسية والسياسة والتفاهم مع الوجهاء، ورجال الدين في تلك المناطق، لذلك بقي السلاح منتشر وبكثافة بالغة لدى مجموعات مسلحة كثيرة والبعض منها ذو خلفية طائفية.

يقينا أن هناك من الأقليات من لديها فكرة، عن أن هناك إمكانية لتدخل دولي لإحباط السلطة القائمة وإزالتها ووضع سلطة تتوافق مع الأقليات، أو في أقل الاعتبارات، منحها استقلالية والعودة مرة أخرى إلى الدويلات، التي شهدتها سوريا خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن المنصرم، مع وجود الاحتلال الفرنسي. وهذه فكرة واهمة جدا بل ساذجة، لان تغيير الحدود القائمة حاليا إمكانية صعبة إن لم تكن مستحيلة. ويبدو أن هذا هو السبب الذي يجعل البعض يرفض شرعية السلطة السورية الحالية، ولا يصغي إلى المنطق العقلاني والواقعي الذي تتبناه منذ وصولها للحكم وحتى اليوم.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن