إلا أنّ أسبابًا عديدة جعلت من لبنان (المتصرفية وولاية بيروت) مكانًا ضيقًا لممارسة المهن الثقافية، وكذلك ضيق فرص العمل، إضافة إلى الرقابة على الصحافة والأفكار من الجهة السياسية ومن الجهة الدينية. ولهذا فإنّ عددًا كبيرًا من المتعلمين والمتأدبين اختاروا الهجرة بحثًا عن فرص العمل والعيش، فكانت الهجرة إلى مصر التي ازدهرت فيها الصحافة في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر.
وكان أبرز المهاجرين جرجي زيدان مؤسس مجلة الهلال والأخوين تقلا مؤسّسي جريدة الأهرام وفارس نمر ويعقوب صروف وشاهين مكاريوس وشبلي الشميل وفرح أنطون وغيرهم كثير، أما الهجرة إلى الأميركيّتين، فقد أخذت العديدين ممن برزوا في الأدب والشعر أمثال جبران خليل جبران وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة وايليا أبو ماضي وفوزي المعلوف ورشيد سليم الخوري وغيرهم كثير.. وكان بعض هؤلاء قد عاد إلى البلاد واستقرّ فيها مثل أمين الريحاني وميخائيل نعيمة. وكان لبعضهم إشعاع أدبي محدود خارج لبنان، ويعود السبب في ذلك إلى ضعف الوسائط الثقافية كالمجلات، وانصراف هؤلاء الكتّاب إلى المواضيع اللبنانية وحياة القرية، ما عدا الريحاني الذي كتب في موضوعات عربية، وإذا استثنينا جبران خليل جبران لم يعرف لبنان ولا المشرق شخصية فكرية وأدبية من وزن العقاد أو سلامة موسى أو طه حسين.
السجالات العقائدية استنفدت الطاقات الفكرية وغلّبت الأيديولوجيا على الحشرية المعرفية والبحث النقدي
وبعد إعلان دولة لبنان الكبير (1920) انشغل اللبنانيون بالجدل حول هوية بلدهم فينيقية أم عربية، كما انشغل المشرق بالسجالات العقائدية بين القوميين العرب والقوميين السوريين والشيوعيين، هذه السجالات التي استنفدت الطاقات الفكرية، وغلبت الأيديولوجيا على الحشرية المعرفية والبحث النقدي.
وبرز في لبنان أدباء وشعراء أمثال بشارة الخوري (الأخطل الصغير) وسعيد عقل، وفي الأقصوصة والرواية برز سعيد تقي الدين وتوفيق يوسف عواد ومارون عبود، وللأسباب المذكورة سالفًا بقي انتشار أعمالهم محدودًا خصوصًا لغياب المجلات الواسعة الانتشار التي تدفع بأسمائهم إلى خارج لبنان.
وقد أصدر فؤاد حبيش مجلة المكشوف عام 1935 وكانت غايتها تناول الموضوعات المشوقة والساخرة، وقد نشرت مقالات وقصص، ومن كتّابها رئيف خوري ومارون عبود والياس أبو شبكة وخليل تقي الدين وعمر فاخوري وقدري قلعجي. وأسس حبيش دار المكشوف التي اعتنت بالتاريخ اللبناني القديم والحديث ونشر الأعمال الأدبية لكتاب المجلة. وفي عام 1941 أسس أنطوان تابت وقدري قلعجي مجلة الطريق المقرّبة من الحزب الشيوعي والناطقة باسم أنصار السلم، وركزّت عند صدورها على مناهضة الفاشية والنازية.
ومع بداية الخمسينات أخذت الثقافة اللبنانية بالخروج من إطارها المحلي إلى استقطاب الأقلام العربية وخصوصًا المشرقية. وكان ظهور مجلة الآداب مطلع عام 1953، بمثابة إعلان عن هذا الدور الذي ستلعبه بيروت، فقد ضمّ العدد الأول أسماء كتّاب من لبنان: ميخائيل نعيمة وتوفيق يوسف عواد وخليل تقي الدين ومن مصر أحمد زكي وأنور المعداوي، ومن سوريا نزار قباني وأحمد سليمان ومن العراق نازك الملائكة. ودأبت الآداب على استقطاب الأدباء والشعراء من البلاد العربية وخصوصًا من سوريا والعراق وفلسطين. وفي عام 1957، أصدر يوسف الخال مجلة شعر التي أخذت على عاتقها الدعوة إلى الحداثة الشعرية، وكان قد تحلّق حولها أدونيس وخليل حاوي وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ومحمد الماغوط وجبرا إبراهيم جبرا وغيرهم.
وفي عام 1962 أصدر توفيق صايغ مجلة حوار مستقطبًا كتّابًا ونقّادًا وشعراء وأدباء من مصر وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين، وكانت المجلة قد نشرت موسم الهجرة إلى الشمال للسوداني الطيب صالح. وفي عام 1968 أصدر الشاعر أدونيس مجلة مواقف، ومثل شقيقاتها السابقات استقطبت الأقلام الشابة من لبنان وسائر البلدان، واعتنت بالأبحاث النقدية والتجارب الشعرية والأدبية الحديثة.
بالإضافة إلى المجلات الأدبية صدرت في بيروت المجلات البحثية والفكرية مثل دراسات عربية لناشرها بشير الداعوق عام 1964. وفي السبعينات صدرت قضايا عربية لناشرها عبد الوهاب الكيالي والفكر العربي التي صدرت عن معهد الإنماء العربي. وقد مثّلت هذه المجلات مجتمعة تيارات متعددة عبّرت عن السجالات الثقافية والفكرية التي كان يشهدها لبنان.
تميّزت الثقافة في بيروت بالتنوّع وأفسحت المجال أمام الأصوات التي لم تكن تجد مجالًا للتعبير في بلدانها
ومنذ الخمسينات أصبح لبنان عاصمة للنشر العربي مع دور نشر تأسست في الخمسينات والستينات مثل دار الآداب ودار الطليعة ودار عويدات ودار ابن خلدون وغيرها الكثير. وميزة النشر في بيروت أنه كان عربيًا بالدرجة الأولى، فكانت بيروت نافذة للأصوات الجديدة في الشعر والقصة والرواية، ومن جهة أخرى قامت دور النشر في بيروت بترجمة الآداب العالمية فقرّأ العرب جان بول سارتر وهمنغواي ومورافيا وغيرهم الكثير. واضطلعت بعض الدور بعد عام 1967، بترجمة ونشر الأدبيات الاشتراكية خصوصًا مع بروز المقاومة الفلسطينية.
تميّزت الثقافة في بيروت بالتنوّع والتعبير عن الاتجاهات الأدبية والفكرية الجديدة. وأفسحت المجال أمام الأصوات التي لم تكن تجد مجالًا للتعبير في بلدانها، ونظرة متفحّصة تظهر لنا أنّ الشعراء بين الخمسينات والسبعينات كانوا نجوم الأدب والثقافة. وأفسحت بيروت الستينات المجال للأصوات النسائية في الأدب من ليلى بعلبكي إلى غادة السمان وليلى عسيران واميلي نصرالله والفلسطينية سميرة عزام.
أما الخدمة التي قدّمها النشر في لبنان للثقافة العربية فكانت في ترجمة الآداب والمعاصرة والتيارات السياسية المعاصرة إضافة إلى مراجع في العلوم الاجتماعية والسياسية والمعاجم، التي كانت تنتشر في كل البلدان العربية.
لقراءة الجزء الأول: جغرافيا الثقافة العربية الحديثة - زمن النهضة (5/1)
لقراءة الجزء الثاني: جغرافيا الثقافة العربية الحديثة - مصر (5/2)
(خاص "عروبة 22")