وجهات نظر

جغرافيا الثقافة العربية الحديثة (5/1)زمن النهضة

عند عودته من باريس عام 1831، وبعد أن أمضى فيها خمس سنوات، عكف رفاعة الطهطاوي على تدوين وقائع رحلته ومشاهداته وتجربته في العاصمة الأوروبية التي كانت آنذاك موئل التنوير والفكر والثورة.

وقد خرج الكتاب تحت عنوان "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، سجّل فيه مظاهر من الحياة والعادات التي خبرها لدى الفرنسيين كما تحدّث عن العلوم والفنون والمكتبات. ومن بين ما تضمّنه الكتاب ترجمة للدستور الفرنسي وتعديلاته بعد ثورة 1830، وقد تضمّن الدستور مبادئ الملكية الدستورية وحرية الأفراد لها. ولا شك بأنّ الكتاب يتضمّن عرضًا لقيم الفرنسيين ومعتقداتهم. إنه باختصار بيان بأفكار التنوير ومنجزاته الاجتماعية والثقافية.

جغرافيا الثقافة العربية الحديثة (5/1)
زمن النهضة

كان المصريون قد تعرفوا إلى مفردات حرية وجمهورية ومساواة من خلال بيانات نابليون بونابرت إثر حملته على مصر عام 1798. لكن من الصعب أن تكون هذه المصطلحات قد عرفت تمثلًا من جانب المصريين أو أنها تركت أثرًا ولو سطحيًا، ومن المحتمل أنها أثارت انتباهًا عابرًا لدى العلماء، ومن بينهم الجبرتي صاحب تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار وهو الذي كتب عن الحملة الفرنسية، الذي أشار إلى هذه المفاهيم/ المصطلحات وناقشها. كذلك فإنّ كتاب الطهطاوي الذي قُرِئ على نطاق ضيّق، فإنّ أفكار الملكية الدستورية والبرلمان وحكم القوانين لم تكن له آثار مباشرة في ثلاثينات القرن التاسع عشر حين كانت مصر في أوج نهضتها الصناعية وبناء الجيش وشقّ الترع وإرسال البعثات الطلابية إلى فرنسا خاصة لدراسة العلوم التقنية واستخدام الخبراء الأوروبيين في الجيش أو المستشفى أو بعض الصناعات.

وكل ذلك كان قد جعل فئة من الإداريين الموظفين على اطلاع على ما يجري في أوروبا من ازدهار، إن للعلوم والتقنيات أو الأفكار والنظم الاجتماعية والسياسية.

لعب الطهطاوي دورًا هامًا في تقريب الأفكار الفرنسية من المفاهيم الإسلامية وكان الرائد في التفكير التربوي

ومن المعلوم أنّ مرحلة البناء في عهد محمد علي قد توقفت بعد معاهدة لندن (1840) التي أجبرته على حلّ جيشه والاكتفاء بـ18 ألف عسكري، الأمر الذي أدّى إلى إقفال أغلب المصانع التي ارتبط انتاجها باحتياجات العسكر، كما أقفلت المدارس التي ارتبطت أيضًا بتجربة محمد هلي ورفده بالعناصر التي يحتاجها الجيش والصناعات والإدارة.

لكن النهضة، إذا جاز التعبير، استؤنفت في مصر في عهد الخديوي إسماعيل (1863-1879)، ففي تلك المدة عرفت مصر تطورات كبيرة من بين أبرزها افتتاح قناة السويس وما رافق ذلك من استعدادات عمرانية من بناء قصور وشقّ شوارع والطموح إلى بناء قاهرة عصرية على ضفاف النيل، إضافة إلى افتتاح المدارس الإرسالية الرسمية التي بلغت العشرات إضافة إلى المعاهد الصناعية، ومدرسة الحقوق الشهيرة والمدارس العسكرية. كما عرف عهده صدور عشرات الصحف التي تعبّر عن ميول واتجاهات مختلفة، والتي لعبت دورًا في اتساع فئة القرّاء الذين يطّلعون على الثقافة الحديثة والمفاهيم الجديدة. وفي تلك الفترة عاد رفاعة الطهطاوي ليبرز كتربوي ومنشئ لمجلة روضة المدارس، وتأليفه كتابين هامين المرشد الأمين للبنات والبنين الذي جسّد فيه منهجه التربوي، وكتاب مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، الذي ينطوي على أفكار تتعلّق بالمجتمع والسياسة والوطنية والمنافع العمومية. لقد لعب الطهطاوي دورًا هامًا في تقريب الأفكار الفرنسية من المفاهيم الإسلامية. وكان الرائد في التفكير التربوي الذي انعكس على الأجيال اللاحقة من الكتّاب والمفكرين المصريين. نذكر أيضًا علي مبارك الوزير والكاتب الذي ترك العديد من المؤلفات من بينها علم الدين وهي أقرب إلى رواية، تتضمن حوارًا بين شيخ أزهري وأوروبي، الهدف هو الجدل بين الدين والعلم والشرق والغرب.

في عصر "التنظيمات" ظهرت اتجاهات فكرية تعبّر عن نزعات جديدة في الأدب وانتشار الأفكار الحديثة الوطنية والاجتماعية

لم تقتصر النهضة على مصر، بل أن إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا، في حملته على بلاد الشام، نقل بعض التحديثات الإدارية معه، وقد شهدت بيروت بشكل خاص بعض مظاهر التحديث والنمو، خصوصًا بعد أن اعتُمد مرفأها، مكانًا للكرنتينا، فازدهرت بيروت وبفضل سياسات إبراهيم باشا تشجّعت الإرساليات على افتتاح مدارس لها وظهرت في تلك الفترة ملامح تحديثات إدارية، وهجرة من الأرياف والمناطق المجاورة إلى بيروت التي عرفت توسعًا في الأعمال والتجارة. ومنذ 1860، وبعد إنشاء متصرفية جبل لبنان عرفت بيروت حركة تعليمية واسعة بإنشاء الجامعة الأميركية وظهور الجمعيات الأدبية وإصدار الصحف، ونشر الكتب والمعاجم، وبرزت أسماء: بطرس البستاني وناصيف اليازجي ويوسف الأسير وأحمد فارس الشدياق. وبرزت ملامح نهضة أدبية ولغوية في ظل تشجيع من الإدارة العثمانية التي أولت بيروت اهتمامًا خاصًا وأعلنتها ولاية ممتدة من اللاذقية إلى عكا، نظرًا لدورها ونمو اقتصادها واتساع نطاقها..

كان ذلك العصر يعرف بعصر "التنظيمات" نسبةً للتنظيمات الخيرية التي أعلنتها الدولة عام 1856، إلا أن بداية التنظيمات ترجع إلى عام 1839، حين أعلن السلطان الشاب عبد المجيد فرمانًا يتضمن إعلانًا بمساواة الرعايا دون تفرقة في الدين أو المذهب. وإجراء إصلاحات ضرورية. كانت سمة عصر التنظيمات بروز دور الإداريين العثمانيين (وزراء وصدور عظام) الذين تبنّوا إصلاحات في العلم والإدارة والقضاء والجيش. وفي عصر التنظيمات ظهرت اتجاهات فكرية في استامبول، تعبّر عن نزعات جديدة في الأدب وانتشار الأفكار الحديثة الوطنية والاجتماعية.

ومن آثار عصر التنظيمات انتقال عمليات التحديث إلى تونس في عهدي أحمد باي والصادق باي، شملت العسكرية والتعليم وإعلان أول وثيقة دستورية في العالم العربي عام 1860 عرفت باسم عهد الأمان، ولا شكّ بأنّ هذه التحديثات كانت تجري هنا وهناك مع بروز جيل أو أجيال جديدة مطّلعة على الثقافة الأوروبية، إضافةً إلى ضغوط الدول الأوروبية. ولعلّ خير الدين التونسي خير من يعبّر عن فكر وزمن عصر التنظيمات في عبارته، في كتابه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك. يقول: "إن التمدّن الأوروباوي قد تدفّق سيله في الأرض فلا يعارضه شيء إلا استأصلته قوة تياره المتتابع، فيخشى على الممالك المجاورة لأوروبا من ذلك التيار، إلا إذا حذو حذوه وجروا مجراه في التنظيمات الدنيوية، فيمكن نجاتهم من الغرق".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن