صحافة

واشنطن تعيد رسم قواعد اللعبة مع "طهران النووية"

خالد أبو بكر

المشاركة
واشنطن تعيد رسم قواعد اللعبة مع

من كان يراقب دينامية المفاوضات النووية بين طهران وواشنطن خلال الأسابيع الأخيرة، سيلاحظ أن إلغاء الجولة الرابعة من المفاوضات غير المباشرة، التي كانت مقررة في عُمان السبت الماضي، وما تلاها من إلغاء اللقاء بين إيران والترويكا الأوروبية في روما، لا يشير إلى انهيار المسار التفاوضي بقدر ما يشي بتحول استراتيجي في طريقة إدارة الصراع. فالسؤال الحقيقي لم يعد ما إذا كانت المفاوضات فشلت، بل ما إذا كانت واشنطن تعمدت الضغط على زر "إعادة التشكيل" قبل الانتقال إلى الجولة التالية بشروط أكثر تشددًا.

قرار التأجيل جاء في سياق تغييرات غير عادية في بنية صنع القرار الأمريكي: إقالة مايك والتز من منصب مستشار الأمن القومي، وتكليف ماركو روبيو، المعروف بعدائه الصريح لإيران، بالمنصب إلى جانب مهامه كوزير للخارجية. هذا التعيين لم يكن فقط تبديل أسماء، بل يمثل، في جوهره، نقل دفة القيادة إلى الجناح الأكثر تشددًا في الإدارة، وقد تجلّى ذلك في إعلان ترامب نفسه أن هدفه الوحيد هو "التفكيك الكامل" للبنية النووية الإيرانية، وهو موقف يقارب إلى حد التطابق الرؤية الإسرائيلية.

لكن فى المقابل، كشفت منصة Axios إلى أن مفاوضي الإدارة ــ وعلى رأسهم المبعوث ستيف ويتكوف ــ لم يكونوا يسيرون بهذا الاتجاه، بل انخرطوا سابقًا في صياغة مسودة اتفاق يعيد إحياء روح اتفاق 2015، مع تعديلات زمنية وهيكلية، دون المساس بحق إيران في التخصيب، وتعزيز دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية، من دون المساس بالبنية الأساسية للبرنامج النووي الإيراني. الإيرانيون أبدوا مرونة تكتيكية، كقبولهم بفكرة خفض مستوى التخصيب وتوسيع عمليات التفتيش، لكنهم رفضوا بشكل قاطع أي مساس بحقهم في امتلاك دورة الوقود النووي.

لا يمكن فهم تأجيل الجولة الرابعة للمفاوضات بمعزل عن التصعيد الإسرائيلي خلف الكواليس، عبر زيارات رفيعة المستوى لمسؤولين إسرائيليين، بينهم رئيس الموساد دافيد برنياع ووزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، إلى واشنطن في الأسابيع الماضية، حملت معهم ما وُصف بـ"الإنذار الاستراتيجي": إذا لم يتم تفكيك البرنامج النووي الإيراني، فإسرائيل ستتصرف. الرسالة واضحة: لا تنازلات، لا اتفاق.

في الوقت نفسه، واجه ترامب هجومًا من قادة اليمين والإنجيليين، الذين اعتبروا أي اتفاق يشبه اتفاق 2015 بمثابة خيانة سياسية لرصيد الرئيس ترامب، الذي نسف اتفاق أوباما في 2018.. كل ذلك دفع الإدارة إلى التريث في المفاوضات لا إلغائها، بل وتشديد شروط العودة إليها. إيران من جانبها، لم تغلق الأبواب. وزير الخارجية عباس عراقجي أعلن بوضوح أن بلاده باقية على التزاماتها التفاوضية، لكنها لن تتخلى عن ثوابتها. من بينها: الحق فىيتخصيب اليورانيوم، ورفض إدراج الصواريخ الباليستية أو النفوذ الإقليمي ضمن أي اتفاق، والتمسك بمرجعية معاهدة عدم الانتشار النووي (NPT).

بل إن طهران ذهبت أبعد، حين وضعت ــ عبر تصريحات عراقجي وبقائي ــ الإطار الذي يمكن أن يتم فيه التوصل إلى اتفاق: قيود تقنية مقبولة، ضمانات متبادلة، ورفع العقوبات الاقتصادية غير المشروعة، لكن دون مساس بجوهر السيادة النووية. ما حصل في الأسبوع الأول من مايو ليس انسحابًا بل إعادة ترتيب الأوراق. تأجيل الجولة الرابعة لا يعكس انهيارًا بل اختبارًا جديدًا لقدرة كل طرف على الصمود في لعبة حافة الهاوية. الرسائل المتبادلة الآن أكثر صلابة، وأكثر دقة. الإدارة الأمريكية تحاول هندسة اتفاق يُباع انتخابيًا كرؤية جديدة أكثر صرامة من اتفاق أوباما، بينما تحاول إيران الحفاظ على الحد الأدنى من مكاسبها الاستراتيجية من دون الانجرار إلى حرب أو انهيار اقتصادي.

النافذة التفاوضية لم تُغلق بعد، لكنها تضيق. أي فشل في صياغة اتفاق جديد قبل سبتمبر، موعد إعادة فرض عقوبات أوروبية محتملة، سيعني العودة إلى دائرة التصعيد المتبادل. وهنا يصبح التأجيل الحالي لحظة محورية: إمّا مدخلًا لاتفاق معقّد لكن ممكن، وإما بداية مسار نحو المواجهة.

(الشروق المصرية)

يتم التصفح الآن