في البداية، لطالما أكّدت النّظرية الاقتصاديّة أنّ القرب الجغرافيّ والتّشابه الثّقافي يدعمان التّكامل والاندماج الاقتصادي، فالدّول العربيّة قريبة من بعضها، وتمتدّ من "المحيط الأطلسيّ إلى الخليج"، لذلك من المتوقّع أن تتكثّف التّجارة فيما بينها، لا سيّما أنّ النّقل البحريّ هو الوسيلة الأرخص لنقل البضائع. لكنّ العالم العربي قريب أيضًا من مجموعتين عظيمتين من "الجيران" ألا وهما أوروبا وشرق آسيا. لذلك فإنّ أيّ استحداث تجاريّ يمكن تحقيقه من خلال ترسيخ التّكامل الاقتصاديّ العربيّ يجب أن يوازنه التحوّل التجاري الذي قد ينشأ عن تقليل التجارة مع هذه البلدان التي ربما تكون أكفأ على مستوى الإنتاجيّة.
التكامل الاقتصاديّ العربيّ يمكن أن ينمو ويزدهر مع انفتاح الأنظمة السياسيّة وانتهاجها الديمقراطيّة
وفيما يتعلّق بالثقافة، تشير كلّ النّظريات والوقائع إلى تعزيز التجارة والاستثمارات بين الدول ذات الثقافات المتماثلة، ولعلّ الاتحاد الأوروبيّ هو أفضل مثال على ذلك. ومع هذا، قد يجادل البعض بأنّ الثقافة تصبح أقلّ تمايزًا في عالم تتضاءل فيه المسافات ويغدو الاتصال البشري أسهل وأسرع، وبالتالي يتراجع دورها نسبيًا في تحديد التّكامل الوثيق. وفي المقابل، يردّد آخرون أنّ الانتكسات الأخيرة للعولمة، كما الاستياء من الهيمنة الثقافية، تشير إلى أنّ الثقافات الفرديّة ما زالت ذات أهمّيّة ودور رئيسيّ في تحديد الهويّة والقيم والتّماسك الاقتصاديّ – الأمر الذي يمكن أن ينطبق بالتأكيد على العالم العربيّ.
كذلك تُشكّل السياسة عاملًا أساسيًّا، فانفتاح البلدان أمام حركات التّجارة والاستثمارات الحرّة لا بدّ أن يتيح أيضًا تبادل الأفكار والممارسات السّياسيّة الحرّة، وهو مسار كفيل بتعزيز نفسه. ولهذا السّبب تميل البلدان الأكثر تشابهًا سياسيًّا، والأكثر حرّيّة وانتظامًا، إلى التّجارة والتّكامل بشكل أكبر فيما بينها، وخير مثال على ذلك هو كل من الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وكندا(1). ولا شكّ في أنّ الأنظمة والممارسات السياسيّة لا تزال متخلّفة إلى حدّ كبير في العالم العربي، حيث تسود مروحة واسعة من الأنظمة السياسيّة، سواءً الجمهوريّة منها أو المَلَكيّة، وصولًا إلى المَلَكيّة الدستوريّة، ومع ذلك ما زال طابع الاستبداد غالبًا على أسلوب الحكم ونمطه. وهذا لا يعني أنّ الأنظمة الاستبداديّة لا تتبادل التجارة في ما بينها، بل هي تفعل، ولكن على نطاق أقلّ اتّساعًا. والأهمّ هو أنّ التّكامل الاقتصاديّ العربيّ يمكن أن ينمو ويزدهر مع انفتاح الأنظمة السّياسيّة في الدّول العربيّة وانتهاجها الديمقراطيّة. علاوة على ذلك، فإنّ زيادة التّحوّل الدّيمقراطي مفيدة في ذاتها، بصرف النظر عن آثاره الإيجابيّة في التّكامل الاقتصاديّ. وممّا لا يقلّ أيضًا أهمّية أنّ ما يمكن لهذا النّوع من "التّنمية السياسيّة المنظّمة" فعله هو كبح الاضطراب السّياسي الذي اجتاح الدول العربيّة ربما منذ استقلالها، لأنّ الاستقرار السياسي هو من شروط ازدهار التّكامل الاقتصادي.
"الميزات التفاضليّة" الجديدة تستلزم تمتّع الدول التجاريّة بقاعدة اقتصاديّة إنتاجيّة متنوّعة
إنّ العوامل الاقتصاديّة ومتطلّباتها الأساسيّة، هي بطبيعة الحال ضرورية وحاسمة، وفي هذا الصّدد، يشدّد الشّرط المسبق الأقدم في العلوم على نظريّة "الميزات التفاضليّة" Comparative Advantages. وينبغي أن تكون البلدان ذات إنتاجيّة مرتفعة وتنافسيّة بالقدر الكافي لتبادل التّجارة، كما تعمل اتّفاقيّات التّجارة الحرّة على التّكامل الوثيق في تعزيز هذه الميزة من خلال الفوائد المترتّبة على انخفاض التعريفات الجمركيّة، والأهمّ من ذلك، اقتصاديّات الحجم. لكن الأمر لا يقتصر على هذه الأخيرة وحسب، إذ إنّ البلدان إذا احتاجت إلى تصميم منتجاتها وتنويعها لتناسب الأسواق الفرديّة، فستكون اقتصادات الحجم محدودة، لأنّها ستضطر لإنتاج منتجات مختلفة لمجموعة متنوّعة من المواقع الأجنبيّة. وبالتّالي، فإنّ البلدان الّتي تتمتّع بترتيبات تجارة حرّة ناجحة (كالاتّحاد الأوروبي واتّفاقيّة التّجارة الحرّة لأميركا الشّماليّة) تحظى بالجزء الأكبر من تجارتها في السّلع المتنوّعة، حيث تعمل على تصميم المنتجات بما يناسب المستهلكين في كلّ دولة. بالإضافة إلى ذلك، في عصر اقتصاد المعلومات اليوم، لا تعتمد التّجارة في منتجات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات إلى حدّ كبير على اقتصاديّات الحجم، حيث إنّ التّكلفة الإضافيّة لمضاعفة حجم الانتاج وخدمة أسواق أكبر لا تمثّل كلفة عالية. والمقصود هو أنّ "الميزات التفاضليّة" الجديدة تستلزم، من أجل التّكامل الاقتصاديّ النّاجح، تمتّع الدّول التّجاريّة بقاعدة اقتصاديّة إنتاجيّة متنوّعة، وعدم اقتصارها على منتجات فرديّة متخصّصة.
العمالة العربيّة الوافدة في دول مجلس التعاون الخليجيّ هي العنصر المجهول للتكامل الاقتصاديّ
إنّ كل ذلك مرتبط بشرط اقتصاديّ مهمّ هو تكامل الاقتصادات عامة، وخاصّة عندما يتعلّق الأمر بثروات مواردها الطّبيعيّة. ويظهر أنّ الاقتصادات العربيّة تلبّي هذا الشّرط المسبق بشكل جيّد. وتُعتبر دول مجلس التّعاون الخليجيّ، والعراق والجزائر على نطاق أضيق، غنيّة برأس المال بينما يمكن اعتبار غالبيّة الدّول العربيّة الأخرى غنيّة بالعمالة؛ وهنا يكمن الأساس للتّكامل الاقتصاديّ الوثيق. لكنّ هذا المنظور يؤكّد أمرين، الأول هو أنّ الدّول العربيّة الغنيّة برأس المال يقتصر غناها في الواقع على الصّعيد الماليّ، لا على الرأسماليّة الحقيقيّة والتكنولوجيا، (علمًا أنّ ذلك في صدد التّغيّر، خاصّة في الدول العربية كالإمارات والسّعوديّة وقطر). أمّا الثّاني، فهو أنّ الدّول العربيّة الغنيّة برأس المال تستورد الكثير من العمالة من الدّول الغنيّة بها، لذا فإنّ هذا "التبادل يقوم مقام تجارة السّلع". وفي الواقع، فإن العمالة العربيّة الوافدة في دول مجلس التّعاون الخليجيّ هي في الغالب العنصر المجهول للتّكامل الاقتصاديّ العربيّ. ومع ذلك، فلا بدّ ليكون التّكامل فعّالًا من اشتماله على تعميق التطوّر النوعي لرأس المال الحقيقي، وكذلك للتكنولوجيا والمهارات.
وأخيرًا، يبقى العامل الأهمّ للتطوّر الاقتصادي وهو العامل المؤسّساتي. إذ إنّ عملية الحوكمة الرشيدة والحكم السّليم وسيادة القانون ليست فقط ضرورة لضمان الإدارة السّليمة والصّحيحة لمناطق التّجارة الحرّة، بل أيضًا لنجاح وتطوّر جميع الاقتصادات، وبدون ذلك لن تحقّق جهود التّنمية للتقدم والتّكامل العربيّ هدفها. علاوة على ذلك، لا بدّ من التأكيد على أنّ الاختلاف في اقتصادات الدول الغنيّة بالثروات الطبيعية المتشابهة، يعود أساسًا إلى الدور الفعّال للمؤسسات الوطنية المؤثّرة في هذه الدول، وعلى سبيل المثال الاختلاف بين نيجيريا والنرويج.
والجدير بالذّكر أنّ تأسيس منطقة التّجارة الحرّة العربيّة عام 1998 لم يحقّق بعد النّتائج النوعيّة والكمّيّة المرجوّة منه. ويعود ذلك في جميع الأوجه إلى عدم استيفاء شرط توازن العوامل المذكورة أعلاه. لذلك سيكون لدينا المزيد لنقوله حول هذه القضيّة في المقالات القادمة. لكن ما يجب أن نأخذه بعين الاعتبار هو أنّ الاقتصاد العربي الذي يلبّي متطلّبات هذه العوامل الأساسيّة سيكون اقتصادًا قادرًا على النّمو بشكل مطّرد وتحقيق التّكامل بشكل مثمر. وبعبارة أخرى، فإنّ خط السّببيّة ينطلق من نقطة التّنمية الاقتصاديّة السّليمة ليصل إلى نقطة التّكامل الاقتصاديّ السّليم.
(1) باستثناء الصّين، ذلك أنها الاستثناء الذي يُثبت القاعدة، وهي أنه بعد الانفتاح السياسي بالمقارنة مع نظام ماو المتشدّد، تسارع تكاملها الاقتصاديّ مع العالم، أما تشدّد سياسات الرئيس الحالي شي جين بينغ فكان عنصرًا سلبيًا لتجارة الصين، خاصةً مع الولايات المتّحدة والاتّحاد الأوروبي.