بصمات

العداء للغرب (1/2)

في سنوات الخمسينيّات من القرن الماضي، كان العالم العربي يضّج بالتيارات القومية والاشتراكية وخصوصًا في بلاد المشرق. وكان التيار الإسلامي يبدو ضعيفًا أمام صعود القوميّة العربية وحركات التحرّر وخصوصًا في الجزائر التي استحوذت على دعم سائر العرب العاطفي والعملي. كما شهدت نهاية عقد الخمسينيّات الوحدة بين مصر وسوريا، وقد بدت تلك الوحدة وكأنّها مقدّمة لوحدة الأمّة العربية من المحيط إلى الخليج.

العداء للغرب (1/2)

شهدت تلك الفترة تسارعًا في تحديث الحياة الاجتماعية إنْ في العادات أو في التعليم أو في انتشار العمران الحديث الذي امتدّ خارج المدينة القديمة. وقد حازت المرأة حرّية العمل والتعلّم وتخلّت عن الحجاب فلم نكد نصل إلى بداية ستينيّات القرن العشرين، حتى كان الحجاب قد غاب عن المشهد العام خصوصًا في المدن.

لكنّ المرحلة ذاتها شهدت أحداثًا جِسامًا أبرزها "نكبة فلسطين" ثم العدوان الثلاثي على مِصر إضافةً إلى حرب التحرير الجزائرية ضدّ الفرنسيين. الأمر الذي أدّى إلى تصاعدٍ في اللهجة وفي الشعارات المُعادية للاستعمار والغرب عامّة. والمفارقة أنّ كل ذلك كان يحدث في وقتٍ واحدٍ، فبقدر ما كانت الحياة العامّة في سلوكيّاتها الاجتماعية تمضي في أخذ التقاليد الغربيّة، كانت الشعارات الثورية تنطوي على العداء للاستعمار والدول الغربية.

ما زلنا عاجزين عن إدراك عمق التناقض بين الاندفاع نحو التحديث وبين تصاعد العداء للغرب

في تلك الآونة، كان عالِمُ الاجتماع، ومستعربٌ معروف، هو الفرنسي جاك بيرك يجول في البلدان العربية من مصر إلى سوريا ولبنان والعراق، وقد لاحظ تصاعد لهجة العداء للغرب وتحميله مسؤولية التآمر. يقول في كتاب "العرب من الأمس إلى الغد"، الصادر عام 1959، "يبدو أنّ الاستعمار والرّأسمالية التوسّعية قد لعبا في العالم العربي، بل وفي العالم الشرقي كلّه، الدور الذي لعبته خطيئة آدم الأصلية في نفوسنا نحن الغربيين".

لم نكن نحن العرب نُدرك التناقض بين الاندفاع نحو التحديث وبين تصاعد العداء للغرب. وما زلنا حتى اليوم عاجزين عن إدراك عمق التناقض والهوّة السحيقة بين الأمرين، ومثال على ذلك الثقة بمنتجاته وصناعاته، ورفض ثقافته والعداء لسياساته.

وحتّى نهاية الستينيّات، كانت الشعارات المُعادية للغرب تُعبّر عن مضامين سياسية بالدرجة الأولى، وتُركّز على الاستعمار وأعوان الاستعمار. بل إنّ الانقسام العالمي بين معسكرٍ شرقي اشتراكي وغرب رأسمالي، قد عزّز الطابع السياسي للعداء، خصوصًا أنّ أنظمة مصر وسوريا والعراق والجزائر كانت صديقةً للاتحاد السوفياتي الذي يزوّدها بالأسلحة، فضلًا عن كونها أنظمة تدّعي الاشتراكية، وتقوم أنظمتها على الحزب الواحد.

لكنّ العداء كان له جذرٌ غير سياسي، يمكن أن نتعقّب أصوله إلى فترة السلطان عبد الحميد الثاني الذي دعا إلى "الجامعة الإسلامية" للوقوف في وجه الأطماع الاستعمارية، ويمكن إرجاعه أيضًا إلى التيار الإصلاحي بزعامة جمال الدين الأفغاني الذي أصدر في باريس مجلّة "العروة الوثقى"، وجعل مهمّتها مهاجمة الاستعمار البريطاني الذي حسب قول المجلة في مقالاتها: "يريد إلغاء الدّين الإسلامي". وكان للتيار الإسلامي عامةً أن يشعر بمزيدٍ من استهداف الإسلام وخصوصًا بعد إلغاء الخلافة من جانب الحكومة التركية العلمانية بقيادة مصطفى كمال (أتاتورك).

مسلمون في العالم العربي والعالم الإسلامي لازمهم الشعور بأنّ إلغاء الخلافة يُعادل إلغاء البابوية الكاثوليكية

وإذا كان الليبيراليون والعِلمانيون والقوميّون لم يُبدوا قلقًا أو اكتراثًا لإلغاء الخلافة في تلك الفترة من عشرينيّات وثلاثينيّات القرن العشرين، بسبب طغيان الأفكار والشعارات الوطنية والقومية، خصوصًا أنّ موضوع الخلافة أصبح موضع طموحات ملوك العرب، فإنّ مسلمين في العالم العربي وعلى امتداد العالم الإسلامي لازمهم الشعور بأنّ إلغاء الخلافة يُعادل إلغاء البابوية الكاثوليكية.

إلّا أنّ إلغاء الخلافة لم يتحوّل إلى قضيةٍ شعبيةٍ أو جماهيريةٍ، فالشعارات كانت تنصب على مطلب الاستقلال، فبرزت حركات التحرّر الوطني التي يقودها أشخاص يؤمنون بضرورة التحديث للمؤسّسات، عبر التعليم العصري وإقرار الدّساتير وتحديث القوانين. وكلّ ذلك كان يحدث في أرجاء المعمورة من الصين والهند في آسيا إلى دول أميركا اللاتينية. وقد شهد النّصف الأول من القرن العشرين تراجُع الدعوات الدينية المسيحية والإسلامية وغيرها من الأديان على السواء.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن