الشباب العربي وهواجس المستقبل

"جيل زد" بين الغضب الاجتماعي وأعطاب الأنموذج الاقتصادي العربي!

شهدت المملكة المغربية خلال الأسابيع الأخيرة موجةً احتجاجيةً غير مسبوقةٍ من حيث الشكل والمضمون، قادتها فئة شبابية تنتمي لما اصطُلح عليه عالميًا بـ"جيل زد"، أي المولودين بين أواخر التسعينيّات ومطلع الألفيّة الثالثة. ما ميّز هذه الاحتجاجات ليس طبيعة مطالبها وحسب، وإنّما أسلوب تنظيمها، إذ انطلقت بشكلٍ مفاجئٍ من منصّة "ديسكورد" (Discord) الافتراضية، من دون أي قيادة معروفة أو تأطير حزبي أو نقابي، ورفضت بوضوحٍ كل أشكال الوساطة السياسية.

بخلاف الحركات الاحتجاجيّة التقليدية، حافظ هذا الجيل على مطالبه داخل نطاق اجتماعي صرف، ركّز أساسًا على تحسين الخدمات الصحية والتعليمية وتوفير فرص الشغل، قبل أن يتطوّر الخطاب بسرعة ليرفع سقف المطالب نحو استقالة الحكومة وتوجيه رسائل مباشرة إلى الملك.

محاولات تضييق أمني ساهمت في تأجيج الاحتقان بدل تهدئته

هذا الشكل الاحتجاجي الجديد، الذي استَلهم في جزءٍ منه تجارب موازية شهدتها دول مثل النيبال، أثار في بدايته قلقًا لدى مختلف الفاعلين السياسيين والأمنيين، وهو ما ظهر في الارتباك الذي طبع التدخّلات الأمنية الأولى، وفي التخوّفات التي انتشرت بعد اندلاع أعمال عنف في بعض المدن وسقوط ضحايا، بينهم ثلاثة قتلى. وقد أعاد هذا المشهد إلى الأذهان سيناريوات "الربيع العربي"، مع ما رافقها من انفلاتات أمنية وانزلاقات نحو الفوضى في عددٍ من الدول العربية. ومع ذلك، سرعان ما تداركت السلطات الوضع، وأعادت ضبط التعامل الأمني ليقتصر على المراقبة والمرافقة، ما ساهم في احتواء التصعيد ولو نسبيًا.

من التعاطف الشعبي إلى الارتباك الحكومي

في بدايته، حَظِيَ الحراك الشبابي بتعاطفٍ كبيرٍ من قبل الشارع المغربي، بحكم طبيعة مطالبه الاجتماعية التي يتشاركها عموم المواطنين. غير أنّ طريقة تعاطي الحكومة معه كشفت هشاشةً في المقاربة التواصلية، كما أنّ محاولات التضييق الأمني، على الرَّغم من محدوديّتها وعدم انزلاقها نحو العنف المُفرط، ساهمت في تأجيج الاحتقان بدل تهدئته. ومع دخول بعض العناصر التخريبية على خط الاحتجاجات، تراجعت موجة التعاطف تدريجيًّا، خصوصًا بعد تسجيل بعض الأضرار المادية والبشرية.

إقصاء مُمنهج ترجمه الشباب في أشكال متعدّدة من التعبير لكن الحكومة لم تستوعب حجم الإنذار

لكن خلف هذه المظاهر السطحية، يبرز واقعٌ اقتصاديٌ واجتماعيٌ مقلقٌ، يفسّر جانبًا كبيرًا من حالة الغضب. فالإحصائيات الرسمية الصادرة عن "المندوبيّة السامية للتخطيط" تشير إلى أنّ نسبة البطالة في صفوف الشباب تتجاوز 36%، بينما تبلغ أكثر من 20% بين حاملي الشهادات العليا. والأخطر أنّ نحو مليون ومئتي ألف شاب وشابّة خارج دائرة الدراسة والعمل والتكوين، ما يكشف درجةً خطيرةً من التهميش الهيكلي.

هذا الإقصاء المُمنهج لم يظلّ حبيس الأرقام، بل ترجمه الشباب في أشكالٍ متعدّدةٍ من التعبير: في الملاعب عبر الشعارات الجماعية، في وسائل التواصل الاجتماعي عبر حملات رقمية، وفي الشوارع عبر الهجرة الجماعية نحو سبتة المحتلّة فيما عُرف بـ"الهروب الكبير". ومع ذلك، بدا أنّ الحكومة لم تستوعب حجم الإنذار، واستمرّت في خطابٍ رسميّ يحتفي بـ"بريق الاستثمارات" من دون الالتفات إلى عمق الاختلال الاجتماعي القائم.

عطب في النموذج الاقتصادي أم أزمة في الحكامة؟

إنّ ما يطرحه حراك "جيل زد" من أسئلةٍ يتجاوز الظرفيّة المغربيّة ليلامسَ بنية النموذج الاقتصادي العربي برمّته. فهل المشكل في بطء تنزيل الإصلاحات التنموية الكبرى؟ أم في ضعف الحكامة وغياب العدالة في توزيع الثروة؟ أم إنّ جوهر الأزمة بنيوي يتعلّق بطبيعة الاقتصادات العربية التي تُنتج الفوارق بدل تصحيحها؟.

هل نحن أمام "جيل عربي موحّد رقميًّا"؟

السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل يشكّل ما حدث في المغرب مجرّد حالة محلّية معزولة، أم إنّنا بصدد ميلاد شكل عربي جديد من الاحتجاجات الرقمية اللّامركزية؟ وهل تستطيع الدول العربية الأخرى، وخاصّةً الجزائر وتونس ومصر والأردن وليبيا، أن تبقى في منأى عنه، وهي التي تشترك مع المغرب في الخصائص نفسها: فورة ديموغرافية شبابية، بطالة مرتفعة، خدمات عمومية متدهورة، وأزمات ثقة حادّة تجاه المؤسّسات الرسمية؟

ففي الجزائر، لا تزال أزمة البطالة وسط خرّيجي الجامعات مستمرّةً على الرَّغم من عائدات النفط والغاز؛ وفي تونس، ما بعد الثورة لم يحقّق الوعود الاقتصادية المأمولة؛ وفي مصر، تتنامى التساؤلات حول أثر المشاريع الكبرى على معيش الناس؛ وفي الأردن، تتكرّر الإضرابات والاعتصامات بسبب الأوضاع المعيشية؛ وحتّى في دول الخليج التي تتوفّر على إمكانياتٍ ماليةٍ هائلةٍ، بدأ الشباب يرفعون مطالب تتعلّق بنوعية الحياة والمشاركة في القرار، وليس بالتوظيف أو الدعم الاجتماعي وحسب.

هنا يصبح السؤال أعمق: هل نحن أمام "جيل عربي موحّد رقميًّا" أكثر من كونه جيلًا محلّيًا؟ وهل يمكن للغضب أن ينتشر عبر الإنترنت أسرع ممّا تنتقل القرارات عبر المؤسّسات الرسمية؟ لقد بات من السهل أن تنتقل شرارة الاحتجاج من بلدٍ إلى آخر، كما حدث مع "الربيع العربي" قبل عقدٍ من الزمن، غير أنّ الفارق هذه المرة يكمن في أنّ عنصر المفاجأة لم يعد قائمًا، وأنّ الحكومات باتت تمتلك كلّ المؤشّرات التي تنبّهها إلى خطورة تجاهل هذه الإنذارات.

جيلٌ مختلفٌ في إدراكه للعالم وفي طموحاته وسقف توقّعاته

إنّ الدرس المُستفاد من هذه الموجة الاحتجاجية واضحٌ: لا يمكن مواجهة غضب الشباب بسياسات التهدئة الأمنية أو الحملات الإعلامية، بل بإصلاحاتٍ ديموقراطيةٍ عميقةٍ تفتح قنوات المشاركة السياسية أمامهم، وتمنحهم الفرصة للمساهمة في القرار، إلى جانب تسريع وتيرة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالتعليم والصحة والشغل والسكن.

"جيل زد" ليس نسخةً مطوّرةً من الأجيال السابقة، بل هو جيلٌ مختلفٌ جذريًا في إدراكه للعالم وفي طموحاته وفي سقف توقّعاته. لقد منحه العالم الافتراضي شعورًا بالمساواة والحرية والانفتاح، ولن يقبل أن يعيش في واقعٍ يُنكر عليه تلك القيم. ومَن يعتقد أنّ الزمن كفيل بتآكل هذا الغضب، واهمٌ؛ فزمن هذا الجيل يُقاس بسرعة تدفّق البيانات، وليس بوتيرة الدوران البطيء لعقارب السياسة التقليدية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن