صحافة

الشرع في باريس: أن يصل ماكرون متأخراً…

صبحي حديدي

المشاركة
الشرع في باريس: أن يصل ماكرون متأخراً…

في استهلال مؤتمره الصحافي مع الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، خلال أوّل زيارة يقوم بها الأخير إلى دولة أوروبية، وكبرى في هذا المضمار؛ حرص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على إعطاء الانطباع بأنه، وبلده فرنسا، ليس في وارد إسداء النصائح وإعطاء الدروس، لأنّ هذا "ليس الدبلوماسية التي نمارسها" كما قال، والغاية في المقابل هي "التفكير في الشعب السوري الذي واجه كلّ التحديات".

الانطباع المرادف، المنتظَر تلقائياً وذاتياً بالطبع، كان منح فرنسا شهادة حسن سلوك تامة في العلاقة مع نظام بشار الأسد، لا تشوبها شائبة بعد سنة 2011 وانطلاق الانتفاضة الشعبية السورية؛ ليس، في المقابل، من دون إغفال تاريخ العلاقات ذاتها أثناء 30 سنة من نظام حافظ الأسد، والعقد الأوّل من حكم وريثه بشار، حيث السجلّ لا يؤكد النقائض وحدها، بل الوقائع المخزية والمعيبة.

وبالطبع، كان بعيداً تماماً عن الانتظار أن يعود ماكرون نفسه إلى مواقفه الشخصية، في سنة 2017 خلال رئاسته الأولى، حين كانت هويته الإيديولوجية الأوضح هي الذرائعية الباردة على الطريقة الأمريكية الأثيرة؛ التي صقلتها فترة عمله كمستشار استثماري لدى مصارف روتشيلد. ففي صيف ذلك العام، وخلافاً للسياسة الرسمية المناهضة للنظام السوري كما اعتمدها سلفه فرنسوا هولاند، قال ماكرون: "منظوري الجديد بشأن هذه المسألة، هو أنني لم أقل إنّ رحيل بشار الأسد شرط مسبق لكل شيء، لأني لم أر بديلاً شرعياً"، وكذلك: "الأسد عدو للشعب السوري لكن ليس عدواً لفرنسا، وأولوية باريس هي الالتزام التام بمحاربة الجماعات الإرهابية".

بذلك فإنّ ماكرون احتاج إلى ثماني سنوات لاحقة، ولكن توجّب أيضاً أن يسقط نظام "الحركة التصحيحية" ويتفكك تباعاً إرث الأسدَين الأب والابن معاً؛ كي يستذكر، خلال مؤتمره الصحافي مع الشرع في باريس مؤخراً، حقيقة أولى ساطعة وفارقة: أنّ دمشق على أبواب فرنسا، ومنها يمكن الوصول إلى باريس سيراً على الأقدام، حسب تعبيره. وأياً كان مقدار المجاز في هذه العبارة، فإنّ مؤشرات الواقع الفعلي وأشدّ واقعية في معظم ما يخصّ مقادير المسافات الجيو ـ سياسية والجيو ــ أمنية، ومثلها الجيو ـ اقتصادية والجيو ـ اجتماعية والجيو ـ تاريخية والجيو ـ ثقافية… بين دمشق وسائر أوروبا.

ذلك، من جانب آخر، لا يُبطل إلا النزر القليل ربما، من نهج إعطاء الدروس الذي طبع استقبال فرنسا للشرع، على نحو يمكن وصفه بـ"الناعم" غالباً، المبطّن بدبلوماسية لم تفتقد إلى الصراحة وبعض الأستذة (حول الأقليات، والمكوّنات، و"قسد" خصوصاً)؛ عبّر عنها أوّلاً، بلسان رئيسه ضمناً وأصولاً بالطبع، وزيرُ الخارجية الفرنسي جان ـ نويل بارو خلال زيارة أولى مبكرة إلى دمشق، مطلع كانون الثاني (يناير) هذه السنة، ثم أعقبه ماكرون نفسه بعد شهر على هامش مؤتمر دولي احتضنته باريس بهدف دعم الانتقال السياسي في سوريا. "نعومة" الدروس اتخذت هذه المرّة وجهة تأييد جهود سلطة الشرع في تلك الميادين، من جهة أولى؛ ثمّ ربط المساندة الفرنسية بتفكير رغبوي أن تُنفّذ تطلعات باريس، من دون اشتراط أو إرغام، من جهة ثانية.

ولعلّ المراقب العادي، المتمرس قليلاً فقط بخيارات ماكرون في ملفات شتى داخلية وخارجية عموماً وشرق ــ أوسطية ومشرقية خصوصاً، وليس بالضرورة ذلك المراقب المتعمق الضليع المتفذلك؛ لا يفوته الأصل في المبادرة الفرنسية (غير البعيدة أيضاً عن توجّه ألماني، عكسته زيارتا وزيرة الخارجية إلى دمشق) أي النيابة عن أوروبا في الانفتاح على الرئيس السوري الانتقالي، وريادة ما سيأتي من مكاسب اقتصادية واستثمارية هائلة تحت بند إعادة الإعمار. وليس الوصول مشياً على الأقدام من دمشق إلى باريس، أو إلى برلين استطراداً، سوى كناية عن عقود أشغال ماراثونية آتية، تخدم الاقتصاد والأعمال والوظائف.

للرئيس ماكرون فضيلة المبادرة إلى تمكين الشرع من زيارة أوروبا، عبر بوابة غير عادية وغير هامشية مثل فرنسا، خاصة وأنّ ملابسات سفر الرئيس السوري الانتقالي تكشفت عن حقيقة أخرى مريرة بصدد العقوبات المفروضة على سوريا وتراث الفصائل الجهادية في البلد؛ إذْ اتضح أنّ في عدادها أيضاً منع الجولاني/ الشرع من السفر بقرار أممي ساري المفعول حتى بعد سقوط النظام، اقتضى من فرنسا استصدار إذن خاصّ من المنظمة الدولية. لا يخفى، كذلك، أنّ لماكرون فضيلة الاتكاء على خطاب جديد بصدد الانتفاضة السورية، أكثر تسيّساً بالمعنى النضالي (إشارة الإطراء إلى فتية درعا والكتابة على الجدران)؛ ولكن ليس أقلّ انحيازاً، في الآن ذاته، إلى شخصيات علمانية التوجّه أمثال بسمة قضماني وعمر عزيز، حيث امتزج الرحيل الطبيعي بالتصفية تحت التعذيب في أقبية النظام السوري.

فإذا وضع المرء جانباً أدوات المراقب المحترف في تحليل الخطاب وتركيب المعطيات، وانتقل إلى بلاغة الصورة الفوتوغرافية ولغة الجسد، فالأرجح أنّ شرائح واسعة من السوريات والسوريين توقفت عند شريط الفيديو الختامي عند مغادرة الشرع قصر الإليزيه، حيث المصافحة الحارّة المطوّلة اقترنت بطراز من الجذل وطلاقة الأسارير لدى ماكرون؛ ولعلها قارنت، في المقابل، سلوك الحدود الدنيا المطلوبة من اللباقة، التي طبعت الاستقبال ساعة وصول الشرع إلى القصر الرئاسي. غير مستبعد، استطراداً، أن يكون ماكرون قد لمس من الشرع ما هو أكثر طمأنة من التقارير الدبلوماسية والأمنية الفرنسية التي وُضعت على مكتبه؛ أو أنّ نرجسية الرئيس الفرنسي، الأثيرة، شاءت الطفو على خواتيم اللقاء، فخال ماكرون أنه نجح في إيصال رسالة باريس.

وفي كلّ حال، قد يكون من الإنصاف المبدئي الافتراض بأنّ الشعبين، السوري والفرنسي، باتا خلال زيارة الشرع إلى باريس على مبعدة ملموسة، قد تكون كبيرة واسعة أيضاً، عن أزمنة سابقة في علاقة قصر الإليزيه بآل الأسد، الأب الدكتاتور مجرم الحرب مثل الابن وريث الدكتاتورية والإجرام. وللمرء أن يدع جانباً "مآثر" فرنسوا ميتيران، أوّل رئيس اشتراكي في الجمهورية الخامسة، صاحب التوجيه بحسن وفادة رفعت الأسد، مجرم الحرب الآخر من آل الأسد؛ أو نيكولا ساركوزي، الرئيس المتهم بالفساد وحامل السوار القضائي، الذي دعا الأسد الابن إلى احتفالات الثورة الفرنسية؛ إذْ يكفي الذهاب إلى جاك شيراك، السبّاق إلى ثلاث في تلميع استبداد آل الأسد.

الأولى استقبال الأسد الابن، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1999، حين كان الأخير لا يشغل أيّ منصب حكومي رسمي، بل لا شغل له علانية سوى رئاسة "الجمعية المعلوماتية السورية"؛ وذلك تلبية لرغبة رفيق الحريري، الذي سوف تشاء الأقدار أن يتمّ اغتياله بأوامر من ضيف الإليزيه، الأسد الأبن. الثانية مشاركة شيراك في جنازة الأسد الأب، حزيران (يونيو) 2000، وكان بذلك الرئيس الوحيد الأوروبي، وممثل قوّة عظمى وديمقراطية عريقة؛ فصرّح يومها أنّ "الأسد طبع التاريخ على مدى ثلاثة عقود، وكان رجل دولة متمسكاً بعظمة بلاده". الثالثة كانت استقبال الأسد الابن مجدداً، صيف 2001، بعد أقلّ من سنة على الكرنفال السياسي والدستوري والبرلماني الذي انتهى إلى تنصيب الأخير وريثاً لأبيه في حكم سوريا.

وأن يصل ماكرون متأخراً إلى مسافة نأي عن أسلافه الرؤساء، ثمّ عن نفسه أيضاً، أمر قد يمنحه قصب سبق من طراز ما، بالقياس إلى معظم ساسة الغرب، من دون أن يجنّبه استحقاق اقتران النوايا الحسنة بالأفعال الملموسة؛ تجاه سوريا جديدة يصعب أن تحتمل المزيد من سياسات الكيل بمكاييل شتى، ودغدغة الطغاة.

(القدس العربي)

يتم التصفح الآن