تقدير موقف

الظاهرة الاستعماريّة بين الإدانة والتمجيد؟

تظهر بين الفيْنة والأخرى على السطح بعض الأفكار اليائسة والعاجزة عن إمكانية تغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المُتردّية التي تعيشها المجتمعات العربية، ويحاول أصحاب هذه الأفكار أو البعض منهم طرح بدائل تبدو جذابةً ومغريةً للشباب خاصة، ومنها التنظير لإيجابيات الاستعمار، بل الدعوة إلى عودته للسيطرة على الأوطان العربية كأفضل الوسائل التي بإمكانها حلّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تتخبّط فيها تلك المجتمعات، من منطلق أنّه الأكثر رأفةً بالسكّان من الحكّام المحلّيين وأنّه القادر على اجتثاث الفقْر وإنقاذ الفقير والقضاء على الفساد بجميع أشكاله بعد فشل دولة الاستقلال في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية وإقامة الحكم الديموقراطي.

الظاهرة الاستعماريّة بين الإدانة والتمجيد؟

يتجاهل هؤلاء أنّ أحد أهم أسباب التأخّر الذي تعرفه المُستعمرات "السّابقة" هو استمرار تبعيّتها للمُستعمر الذي يواصل سطوته وهيمنته بأشكالٍ جديدةٍ، وهو المُستعمِر نفسه الذي يُغلق الأبواب أمام هجرة شباب المستعمرات السابقة إليه واعتماد سياسة انتقائية تجاههم وفرض قوانين عنصرية ضدّهم وطرد المُقيمين منهم حتّى من الحاملين لجنسيّتها.

يلتقي هذا التوجّه الفكريّ موضوعيًّا وجزئيًّا مع المدرسة الاستعمارية الجديدة التي أقرّت قانونًا يُمجّد الاستعمار (القانون الفرنسي الصادر في 23 فبراير/شباط 2005) والذي يفرض على المؤسّسات التربوية والجامعية تمجيد الحضور الاستعماري الفرنسي في بلدان ما وراء البحار وشمال أفريقيا، وإبراز الدور الإيجابي للاستعمار وللتضحيات الجسام للجيش الفرنسي والمجهودات التي بُذلت لتحديث وتطوير تلك البلدان من خلال العديد من الإنجازات في ميدان الصحة والتعليم والبنية الأساسيّة، كالطرقات وخطوط السّكك الحديد والموانئ، التي تمّ تشييدها في الأصل والواقع خدمةً للمُستوطنين ولم يستفد منها السكان الأصليّون إلّا جزئيًّا، وخدمةً للمُشرّع.

الحاضر بما هو عليه من بؤس هو نتيجة عدم فكّ ارتباط الحكومات بمُستعمريها السابقين

تكمن خطورة هذه الفكرة في كوْن الأجيال العربية الجديدة لم تعرف الظّاهرة الاستعمارية ولم تعشْها ولم تدرسْها بدقةٍ، إذ اكتفت برامج تدريس التاريخ في أغلب الدول العربية بتمجيد الحركات الوطنية فيها من دون الاهتمام أو التركيز على الآثار الاقتصادية والاجتماعية السلبية التي خلّفها الحضور الاستعماري وعمليات التدمير التي ضاعفت البؤس والحرمان والشقاء الذي كانت تعيشه الأغلبية السّاحقة من السّكان الأصليين. كما يتجاهل هؤلاء حقيقة الإيديولوجيا الاستعمارية العنصرية التي تحتقر الآخر، وتنظر إليه نظرةً دونيّةً، وهي التي أضْفت الشرعية على هيْمنة الأقلّية الأوروبيّة المُستعمِرة على الأغلبية من السكان الأصليين وأشاعت الخوف في النفوس وصولًا إلى إخضاعهم بكلّ الطرق القانونية وغير القانونية، تحقيقًا لأهداف الاستعمار الاقتصادية والثقافية والاستراتيجية.

وعلى عكس ما يدّعي منظّرو الاستعمار الجدد، فإنّ هذا الأخير لم يَسْعَ في أي وقتٍ من الأوقات إلى تحقيق العدل الاجتماعي أو الاقتصادي أو إشاعة الطمأنينة في نفوس السكّان الأصليين، بل اكتفى في الغالب بنهب خيرات الشعوب والاستفادة من الطاقات البشرية المحلية واستخدامها في الأشغال الشاقّة التي يأبى العنصر الأوروبي القيام بها، بالإضافة إلى فرض التجنيد الاجباري على شباب المستعمرات وزجّهم في حروبه الإمبريالية. أمّا السلطة الإدارية التي أسّسها والأجهزة والقوانين التي استخدمها، فكانت أداةً لممارسة العنف والإكراه والعقاب الجماعي عبر نفي الآلاف من السكان إلى الجزر السجنيّة في المحيط ككاليدونيا الجديدة، وغويانا في أميركا الجنوبية، بالإضافة إلى عملية المسخ الثقافي والاجتماعي.

عمليات النّهب الواسعة والمُستمرّة التي استهدفت خيرات العراق أفضل مثال على ماهيّة الاستعمار وحقيقته

لقد شكّل حضور المستوطنين الأوروبيين قوةً اجتماعيةً واقتصاديةً وثقافيةً في المُستعمرات مما أدّى إلى تعميق التناقضات بين السكان الأصليين والوافدين إلى حدّها الأقصى، الأمر الذي أدّى أيضًا إلى اختلال موازين القوى بشكلٍ حادّ بين المستعمِر والمستعمَر وفتح المجال واسعًا أمام ردود الفعل الفردية العفوية أو المنظّمة ضدّ الأفراد والمؤسّسات الاستعمارية المختلفة في الأرياف والقرى كما المدن ضدّ الحضور الاستعماري، فكانت التضحيات كبيرةً في سبيل أن تحيا الأوطان حُرّةً عزيزةً وكريمة.

مهما كان عنف الحكومات الوطنية وجحود قياداتها وأنانيّتها وقسوتها فلا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنتها بممارسات السلطة الاستعمارية، ومهما ساءت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فلا يمكن أن تقارَن بما كانت عليه الأوضاع زمن الاحتلال، بل إنّ الحاضر بما هو عليه من بؤسٍ هو نتيجة عدم فكّ ارتباط الحكومات بمُستعمريها السابقين.

وقد يكون احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأميركية، "زعيمة الديموقراطية" والمبشّرة بها، والويلات التي عاناها وما زال يعانيها الشعب العراقي بعد عمليات النّهب الواسعة والمُستمرّة التي استهدفت خيراته أفضل مثال، ما قد يساعد الأجيال الجديدة على الوقوف على ماهيّة الاستعمار وحقيقته.

صَمْت مُخزٍ من قِبَل الدول الغربية ذات الماضي الاستعماري إزاء ما يعانيه الشعب الفلسطيني منذ 1948

والأمر نفسُه مع ما يعانيه الشعب الفلسطيني من تصفية عِرقية وإبادة جماعية مُمَنهجة منذ 1948 إلى الآن بأشكالٍ مختلفةٍ من قِبَل الكِيان الإسرائيلي، وبِصَمْتٍ مخزٍ ودعمٍ فاضحٍ من قِبَل الدول الغربية ذات الماضي الاستعماري المقيت، هذا الغرب الذي ينتفض لأبسط خرقٍ لحقوق الانسان في بلدانه الأصليّة غير أنّه عاجز عن إدانة ما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من إبادةٍ جماعيةٍ لم يشهد لها التاريخ مثيلًا، وهو الذي يغفر لسلوك الإرهابيين خارج مجاله الجغرافي ويُسلّط أشدّ العقوبات على أمثالهم من المهاجرين للأسباب نفسِها، ما يُمثّل دليلًا على بشاعة كلّ أنواع الاستعمار ومضامينه وممارساته المختلفة ماضيًا وحاضرا.

لقد كان من الأجدى لأصحاب هذه الفكرة على الأقلّ مطالبة الدول الاستعمارية بمُراجعة تاريخها، بخاصّة في علاقتها مع الآخر، والإعلان عن فساد الظاهرة الاستعمارية وإدانتها، وصولًا للاعتذار عمّا لحق الشعوب من أذيّةٍ طوال الفترة الاستعمارية، وليس تمجيد الظاهرة والدعوة لإحيائها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن