بصمات

انحسار الدّين عن العالم؟!

يتساءل الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه (Marcel Gauchet)، في مقالٍ له، ما إذا كان يصحّ الحديث عن نهاية الدّين في عالمنا اليوم: "يا لها من مفارقةٍ عجيبة: لم يتوقّف الدّين، منذ القرنيْن الماضييْن عن إضاعة الاعتبار النّسبي الذي كان له في حياة مجتمعاتنا - وفي الآن ذاتِه لم يكفّ، في أعين مُنظّريه، عن اكتساب أهميةٍ مُتعاظمةٍ من حيث الأهمية والعمق لجهة الوظيفة التي يقوم بها داخل المجتمعات. فبالقدر الذي نتخلّص فيه من قبضة الدّين بقدر ما يتبيّن لنا، متى أمعنّا النظر تراجعيًّا، أنّ الدّين كان في حقيقة الأمر دائم الحضور في جهازنا الجماعي".

انحسار الدّين عن العالم؟!

يرى هذا الفيلسوف الفرنسي العالي الصّيت أنّ ما يُقال في المعتاد عن" انحسار الدّين" وعن تراجعه عن الفعل في الوجود الإنساني وكلّ ما يتم ترديده بعد ماكس فيبر من حديثٍ عن" رفع غلالة السّحر عن العالم" هو غلوّ وإسراف. وفي هذا المقال الذي نرجع إليه، مثلما هو الشّأن في مقالاتٍ أخرى يرى الفيلسوف الفرنسي أنّ "الإسراف في التفاؤل" هي الصفة التي لازمت كتابات مفكّري عصر الأنوار في حديثهم عن الدّين وعن الضعف المُتنامي لأثره في الوجود وفي المجتمع - وبالتالي التمهيد لما يعتقده الكثيرون اليوم من أنّ الدّين في سبيله إلى "الخروج من العالم" تاركًا المجال فسيحًا للعقل والعِلم في آفاقٍ من الحرّية لا حدود لها.

وجوب التمييز في المسيرة الكبرى لشعوب العالم بين ما كان عليه الوجود البشري "قبل الدولة" وما بعد ذلك

الرأي عند غوشيه أنه لا شيء أظهر للسذاجة في النّظر، ولا أدعى للدهشة، أكثر من هذا الاعتقاد. يذهب الفيلسوف الفرنسي (وقد نعتناه أعلاه بالفيلسوف عالي الصّيت) أنّ الشطط في الاعتقاد والخطل في الرّأي لا يزال مُلازمًا للنظريات السوسيولوجية المعاصِرة، بدءًا من إميل دوركايم - المؤسّس الفعلي لعلم الاجتماع. ذلك أنّ كلّ تلك النظريات تجنح الى القول إنّ "للدّين وظيفة اجتماعية" محض وأنّ إدراك المغزى العملي لتلك الوظيفة يجعلنا في غنى عن الدّين - وبالتالي فإنّ الدّين يحمل في ذاتِه جراثيم الاستغناء عنه وإقصائه من وجود الانسان ومن الفضاء الثقافي الذي يعيش الانسان فيه وتنتظم حاجياته الروحية. والدليل، عند غوشيه، على فساد هذا الرّأي هو أنّ "كل ما شهده الغرب الرأسمالي، الصناعي والديموقراطي، من تراجعٍ للدّين لا يخلو من كونه إمّا عابرًا وإمًا ظاهريًا فحسب". أمّا واقع الحال، وما يبيّن عنه الفحص المتأنّي، فإنّه "يَشي بغير ذلك".

يضيف الفيلسوف الفرنسي: "نعم، يصحّ الحديث عن "خروجٍ للدّين من العالم" (والمزدوجتان على سبيل التحفّظ من عمل غوشيه، وليس من قبلنا) متى اعتبرنا "الخروج" في معنى مغاير. والفكرة المحورية التي ينافح عنها فيلسوفنا تتلخّص في القول إنّ علينا، سعيًا للفهم السليم لصورة الدّين، أن نتبيّن أنّ "الدّيني" لا يزال يقوم في حياتنا بالوظيفة الأصلية التي يقوم بها وأنّ الأمر لا يعدو حدوث تغيّرٍ في أشكال العمل وفي صيَغ التعبير الدّيني فحسب. واجتنابًا لمسايرة غوشيه في تحليلاته (العميقة والرصينة) نخلص إلى القول بوجوب التمييز في المسيرة الكبرى لشعوب العالم، بين ما كان عليه الوجود البشري "قبل قدوم الدولة" (= تكوّن الدولة) وما حدث بعد ذلك. وما حدث هو انبثاق "السياسي" بحسبانه قوةً كبرى وكافيةً في الفعل والتأثير. وفي عبارة غوشيه فقد وقع انقلاب في العلاقة بين "الداخل" وبين "الخارج". والخارج، في لغة غوشيه، هو الموجود "خارج الشعور الباطني".

يتحدث غوشيه عن ظهور نمط جديد من الدّين وانبثاق أشكال جديدة من التديّن

يعني هذا القول إنّ مصدر القيم التي ترسم للفرد أهدافه (وبالتالي تنظّم العلاقات بين الأفراد وكذا بين الجماعات) تأتيه من خارج ذاته. تعني هذه الحقيقة أنّ الفرد لا يمتلك، عكس ما يتوهّم، صفة الاستقلال الذاتي، بل إنّه في حالٍ متّصل من "التوقّف على الغير" (ولست أجد في اللسان العربي مقابلًا أفضل للفظ Hétéronomie). وهذا الذي يُنعت عند غوشيه بحال "التوقّف على الغير" هو في حقيقة الأمر الحال الأصلية أو الطبيعية للإنسان. مع نشوء الدولة، من منظور غوشيه - كما ألمحنا الى ذلك أعلاه، غدت الأمور أكثر تشابكًا وتعقيدًا.

في هذا الصدد، يتحدث غوشيه عن أمرٍ جديدٍ آخر هو ظهور نمطٍ جديدٍ من الدّين وانبثاق أشكال جديدة من التديّن تجسّدها، من جهة نظر فيلسوفنا الفرنسي، "الديانات اللاييكية" - أي الديانات التي ليس لها مصدر علوي أو فوق بشري - وإنّما هي ترجع إلى تقرير الانسان ذاتِه وإلى السلطة التي تفرضها، بقوّة القمع والسيف، أنظمة سياسية هي الأنظمة التي تُنعت بالأنظمة "الشمولية" والشيوعية، وكذا الأنظمة القومية الواحدية (والنازية الألمانية، والفاشية الإيطالية مع موسوليني من تجلياتها).

الخُلاصة أنّ الحديث عن" خروج الدّين من العالم" خطأ وخطل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن