أثبتت الجولة الخليجية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي بدأها من المملكة العربية السعودية فقطر على أن ينهيها في الامارات، أولوياته القائمة على الاستثمارات والاقتصاد ومحاولة التوصل الى اتفاقيات وعقد صفقات تعزّز مصالح بلده، ولو اقتضى الامر تجاوز الحليف الاسرائيلي التقليدي وتخطي التفاصيل الخلافية في بعض الملفات الشائكة، وذلك سعيًا وراء تحقيق اختراقات ملموسة لم يستطع غيره من الرؤساء الأميركيين التوصل اليها، مثل التفاوض مع إيران أو الاتفاق مع الحوثيين أو حتى الانفتاح على حركة "حماس".
فطموحات ترامب في تعزيز شعار "أميركا أولًا" تدفعه نحو ترتيب الاولويات الاميركية في المنطقة، وقد بدا ذلك واضحًا من خلال حجم الصفقات الضخمة التي عقدها في الرياض والدوحة وسيستكملها في أبوظبي، كما عبر سلسلة المواقف المُعلن عنها في القمة الخليجية - الأميركية من حيث التأكيد على الشراكة الاستراتيجية مع دول الخليج وبناء تفاهمات اقليمية واسعة اضافة الى سعيه نحو احلال السلام ونزع فتيل الحروب، بعدما أعلن عن أمله بمستقبل "آمن وكريم" للفلسطينيين في قطاع غزّة، إضافة إلى دعم المفاوضات الجارية مع إيران محددًا شروطًا واضحة تتراوح بين التوقف عن دعم الارهاب ووقف حروبها بالوكالة في المنطقة الى تجديد موقفه الرافض لامتلاكها السلاح النووي.
وعليه، تبدو طهران وتل أبيب الأكثر تأثرًا بهذه الزيارة، التي وصفها ترامب بـ"التاريخية"، فالاولى تنظر بعين الخشية والريبة من السياسات الاميركية التي فعّلت "الضغوط القصوى" عليها عبر فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية في بلد يرزح أصلًا تحت اوضاع اجتماعية ومعيشية صعبة. فعلى الرغم من محادثات مسقط الجارية الا ان الطريق لا يزال محفوف بالكثير من الاختلافات والتباينات خاصة ان وجهات النظر بين ايران والولايات المتحدة لا تزال متباعدة. أما اسرائيل فهي تحلل وتراقب نتائج الجولة بعدما استثناها ترامب من زيارته، بما يكشف التباعد الحاصل خاصة بعد خطوات الرئيس الاميركي التي تتناقض مع مصالح رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في عدة ملفات واخرها الاتفاق مع "الحوثيين" في اليمن على وقف النار دون أن يشمل اسرائيل ورفع العقوبات عن سوريا، بما شكل صدمة لدى الدوائر الاسرائيلية خاصة أن نتنياهو كان يطمح الى إبقاء سوريا ضعيفة ومفككة وتحت رحمة القصف والتدخل.
ومن هنا يمكن القول ان ترامب يمضي قدمًا في تحقيق مصالحه ولو تناقضت قراراته واختلفت عن اسرائيل وشكلت خطرًا عليها، وهو ما ستوضحه الايام المقبلة لاسيما في ما يتعلق بالملف الفلسطيني المُعقد نتيجة الرفض الاسرائيلي لابداء أي مرونة وتحقيق خرق في المفاوضات الجارية. فنتنياهو يصرّ على تحقيق كل أهداف الحرب، كما يدعي، ويرفض المقترحات الجديدة ويقوض عمل الوفد التفاوضي. وفي اخر المستجدات، لم ترشح المعطيات الواردة من الدوحة بأي تقدم ملموس بل اصطدمت مجددًا بتعنت رئيس الوزراء الاسرائيلي. وفي هذا الصدد، انتقد رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إسرائيل، معتبرًا انها "ردت على جهود التسوية بشنّ المزيد من الغارات القاتلة على قطاع غزّة".
هذا وتفاعلت مواقف الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الرافضة لخطوات نتنياهو ومنعه ادخال المساعدات الانسانية للقطاع، حيث اتهمه رئيس الوزراء الإسرائيلي بالوقوف إلى جانب "حماس" في حين قال وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس إن على ماكرون "ألا يعطينا دروسًا في الأخلاق". وهذه ليست "الجولة" الاولى من الخلافات الفرنسية الاسرائيلية بل سبقها العديد من المواقف التي تؤكد ازدياد الشرخ والهوة بينهما. الى ذلك، تواصل تل أبيب سياسة قضم الاراضي وتوسيع سيطرتها اذ باتت اليوم تحتل نحو 35% من مساحة قطاع غزة البالغة 360 كيلومترا مربعًا كما تشدد الحصار المطبق وتستخدم التجويع كسلاح للرضوخ وترفض ادخال قوافل الإغاثة المتوقفة عند المعابر منذ اكثر من شهرين.
فالاوضاع الانسانية في القطاع تزداد سوءاً مع مرور الايام وتنذر بكارثة حقيقية ما لم يتم الضغط على تل أبيب التي تصعّد من عملياتها العسكرية وترفض الرضوخ لمطالب الداخل الاسرائيلي الذي يدعو الى ابرام صفقة فورًا واطلاق سراح كل المحتجزين لدى حركة "حماس". وفي هذا السياق، أوردت معلومات صحفية بأن "مؤسسة إغاثة غزّة"، التي جرى إنشاؤها حديثًا، وتدعمها الولايات المتحدة، ستبدأ العمل في غزّة قبل نهاية الشهر الجاري، وذلك بموجب خطة لتوزيع المساعدات لم تعرف تفاصيلها الكاملة بعد، الا انها لاقت رفضًا من قبل المنظمات الدولية والامم المتحدة التي تعتبرها مخالفة للاصول الانسانية وتنذر بمخاوف لجهة عسكرة المساعدات أو تسييسها.
وبالعودة الى زيارة ترامب الى الدوحة، والتي تعتبر الاولى من نوعها لرئيس أميركي، فقد تميّزت بالحفاوة والترحيب. وقد أبرم الجانبان عدد من الاتفاقيات شملت أكبر صفقة طائرات مع شركة "بوينغ" وذلك لصالح الخطوط الجوية القطرية. ويشمل الاتفاق 160 طائرة بقيمة تتجاوز 200 مليار دولار. كما وقع البلدان سلسلة اتفاقيات في مجال الدفاع شملت شراء مسيرات "إم كيو-9بي" (MQ-9B). هذا وأجرى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني والرئيس الأميركي مباحثات مغلقة استغرقت أكثر من ساعتين تناولت العلاقات الثنائية وملفات المنطقة وأهمها الملف الإيراني والحرب الروسية الأوكرانية كما الوساطة التي تقوم بها الدوحة لانهاء حرب غزّة.
الى ذلك، استمرت ردود الفعل المتعلقة بالقرار الاميركي الداعي الى رفع العقوبات عن سوريا، حيث وصفه الرئيس السوري أحمد الشرع بأنه "قرار تاريخي شجاع"، مؤكدًا ان بلاده "لن تكون بعد اليوم ساحة لتقاسم النفوذ"، وأنه لن يسمح بتقسيم سوريا ولن يفسح المجال لإحياء سرديات النظام السابق، مشددًا على أن سوريا هي "لكل السوريين"، وأنه تم وضع أولويات لمعالجة الواقع المرير الذي كانت تعيشه البلاد. وكان الشرع التقى الرئيس الأميركي على هامش القمة الخليجية الأميركية التي عُقدت بالعاصمة السعودية الرياض، في لقاء هو الأول من نوعه بين رئيسين أميركي وسوري منذ ما يقارب الـ25 عامًا. وقد بدا على ترامب علامات الرضى من اللقاء خاصة انه أشاد بالرئيس الشرع ورؤيته. وقد نجحت الوساطة السعودية والتركية بتحقيق خطوة ملموسة تجلت برفع العقوبات التي كانت تقيّد الادارة السورية الجديدة وتمنعها من اتخاذ قرارات للتعافي واعادة النهوض بالبلاد بعد سنوات طوال من الحرب الدموية.
من جانبها، أوضحت المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت، في بيان، أن الرئيس ترامب حدّد 5 مطالب موجّهة إلى الرئيس السوري خلال اللقاء الذي جمع بينهما، الأول، هو التوقيع على اتفاقية إبراهام للتطبيع مع إسرائيل، والثاني مطالبة جميع المقاتلين الأجانب بمغادرة سوريا، والثالث ترحيل عناصر من حركات فلسطينية مسلحة، والرابع مساعدة الولايات المتحدة على منع عودة "داعش"، والمطلب الخامس والأخير هو تحمل مسؤولية مراكز احتجاز "داعش" في شمال شرقي سوريا. وتشكل هذه المطالب الخمس أولوية اميركية والتي على اساسها ستحدد طبيعة المرحلة القادمة في العلاقات التي يمكن ان تشهد نهضة كبيرة وتشجع على ارساء الاستقرار لما تملكه سوريا من ثقل ودور.
ومن الاوضاع في سوريا الى القمة العربية المُزمع عقدها بعد غد، السبت، في العاصمة العراقية بغداد بظل ظروف استثنائية تمرّ بها المنطقة. وضمن السياق، أعلن وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين أن القمة العربية ستشهد حضور ممثلين عن 20 منظمة عربية، إضافةً إلى ممثلين عن منظمات دولية من بينهم الأمين العام للأمم المتحدة، وسيكون رئيس الوزراء الإسباني ضيف شرف "قمة بغداد". ومن المتوقع ان يناقش المشاركون القضايا والملفات المتعلقة بالوضع في غزّة الى تطورات المشهد السوري واليمني كما مفاوضات ايران بشأن برنامجها النووي. وتجهد بغداد لاستعادة الأمن وتثبيت الاستقرار وتلتزم سياسة الحياد التام ازاء ما تتعرض له ايران بما تملك من نفوذ في هذا البلد.
أما دوليًا، فتنعقد المفاوضات بشأن انهاء الحرب الاوكرانية المتواصلة منذ ثلاث سنوات. فعلى الرغم من مساعي واشنطن وكييف لوضع حد لها، الا ان موسكو يبدو ان لديها حسابات اخرى تختلف تمامًا عن التوجه الاميركي. وفي المستجدات، غاب اسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الوفد الذي سيتوجه إلى إسطنبول، اليوم الخميس، لإجراء مباحثات، وذلك بحسب القائمة التي نشرها الكرملين ليل أمس. يُشار الى أن بوتين هو من اقترح استئناف محادثات السلام المباشرة مع أوكرانيا في المدينة التركية، وقد لاقى ذلك ترحيبًا وقبولًا من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي أكد استعداده "لأي شكل من التفاوض".
وضمن الجولة الصباحية، نرصد استمرار اهتمام الصحف العربية الصادرة اليوم بزيارة الرئيس الاميركي وانعكاساتها على المنطقة والعالم:
رأت صحيفة "الوطن" القطرية أن زيارة ترامب للدوحة "تعكس الأهمية الكبيرة والمكانة البارزة التي تحظى بها دولة قطر كشريك استراتيجي للولايات المتحدة ووسيط موثوق في الدبلوماسية الإقليمية، لا سيما في ظل التحديات والظروف بالغة الدقة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط والعالم"، موضحة أن "العلاقات القطرية الأميركية تمر بمرحلة جديدة واعدة في المجالات السياسية والاقتصادية والاستثمارية والعديد من المجالات الأخرى، بما يصب في صالح الشعبين الصديقين، ويدعم جهود الاستقرار بالمنطقة والعالم".
واعتبرت صحيفة "الخليج" الاماراتية أن زيارة ترامب الى المنطقة "وقبل حلفائه التقليديين في أوروبا الغربية، أو دول المحيط الإقليمي، أو إسرائيل يحمل دلالات تتعلق بالأهمية الاستراتيجية والاقتصادية لدول الخليج بالنسبة إلى الولايات المتحدة، واهتمامها بالدور الخارجي المتنامي لدول مجلس التعاون الثلاث في الإسهام في تحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي"، مشيرة إلى انه "اذا نجحت جهود الرئيس الاميركي الدبلوماسية، بالشراكة مع قادة دول الخليج، في تسوية الصراعات الإقليمية والدولية، يكون قد ابتعد عما أصبح يرتبط به وهو التركيز على جانب المعاملات في السياسة الخارجية".
صحيفة "عكاظ" السعودية، بدورها، تطرقت أيضًا الى فحوى الزيارة اذ قالت "يعرف ترامب – وغيره من قادة العالم – وزن السعودية الحقيقي، كما تدرك المملكة أهمية الشراكة مع أقوى دولة في العالم. وما يجمع الطرفين أكثر بكثير مما يفرّقهما: رؤى اقتصادية متقاربة، مصالح مشتركة، وإرادة سياسية لتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة". وخلصت الى أن "العالم اليوم بحاجة إلى شريك موثوق، والعالم لا يجد هذا الشريك في المنطقة إلا في الرياض. فالسعودية، ببساطة، أصبحت عاصمة الاستقرار في شرق مهزوز".
وشددت صحيفة "الراي" الكويتية على أن "جولة ترامب تمثل أهمية كبيرة لهذه الدول وللخليج والمنطقة ولاقتصاد العالم واستقراره بالوقت ذاته". وقالت "من الواضح أن التنمية في هذه الدول تأخذ أولوية، خصوصاً في عصر التقدم والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، ولعل ما نشاهده ونسمع عنه يؤكد ذلك، وبعض دول الخليج بدأت بوضع مناهج الذكاء الاصطناعي لطلاب المرحلة الابتدائية، لذلك هذه الخطوة للأمام تحفز بقية دول الخليج للحاق بركب التقدم".
وتحت عنوان "نسخة جديدة من دمشق"، كتبت صحيفة "الغد" الاردنية "دمشق الجديدة كانت امام خيارين، اما الحفاظ على نواه النظام الجديد وتوجهاته وتحمل كلف ذلك اقليميا ودوليا، واما التكيف وفقا لشروط مختلفة، من اجل شرعنة النظام، ومن الواضح ان دمشق اختارات الخيار الثاني"، لافتة الى أن "المرحلة المقبلة ستكون مرحلة اقتصادية تستفيد فيها الولايات المتحدة من عمليات البناء واعادة الاعمار، والثروات كالنفط والغاز، وسنرى دخولا واسعا للشركات الاميركية الى سورية، اضافة الى التوقعات بحدوث خصخصة واسعة…".
من جهتها، تناولت صحيفة "الدستور" الاردنية القمة العربية في بغداد والتي "تأتي والمنطقة والمرحلة تواجه ملفات دقيقة، وربما شائكة، لتشكّل هذه القمة لكل هذا الواقع المتشابك ومزدحم الأحداث والاضطرابات فرصة أو مجالا للتنسيق والتشاور والبحث العربي - العربي، لواقع عربي أكثر إيجابية". واضافت "القمة مهمة للعراق، بشكل مباشر، علاوة على أهميتها للمرحلة والمنطقة التي تواجه تحديات كثيرة، وتداعيات خطيرة، تحتاج حقيقة وقفة عربية واحدة، وحتما بحضور عربي على مستوى القادة، ستكون طاولة قمة بغداد الفرصة العملية لمرحلة مختلفة"، وفق تعبيرها.
(رصد "عروبة 22")