العرب لن يكونوا أوّل من يزرع خارج أراضيهم، فقد سبقت الصين الجميع منذ مائة عام للزراعة في الفيليبين ومدغشقر وحديثًا في تنزانيا، وتستثمر البرازيل والهند في بعض بلدان غرب أفريقيا لزراعة حاصلات الوقود الحيوي، وهناك أكثر من إحدى عشرة دولة أوروبية وأميركا وكندا تستثمر في إثيوبيا طبقًا لبيانات الأمم المتحدة والتي أطلقت على هذا الأمر بأنه الاستعمار الجديد تحت زعم الاستثمار الزراعي (Land Grabbing under agricultural investment). كما انتقدت الاستثمار الخارجي في زراعات الوقود الحيوي وقالت إنّ أفريقيا الجائعة تزرع الوقود بدلًا من الغذاء (Hunger Africa continent produce foule not food).
لا يمكن للفقراء أن يحتملوا رؤية القمح والذرة والأرز وهي تُنقل إلى دول أخرى بينما هم يعانون من الجوع
فوجهة نظر المستثمرين أنّهم لا يمكنهم زراعة الغذاء والحبوب في القارّة الجائعة والأكبر في تلقّي المعونات الغذائية وصاحبة عدد الدول الأكثر فقرًا في العالم (وليس عدد السكّان الأكثر فقرًا والتي تحتلّها قارة آسيا صاحبة الكثافات السكانيّة الكبيرة) حيث لا يمكن مثلًا لفقراء هذه الدول أن يحتملوا رؤية القمح والذرة والأرز وهي تُنقل إلى دولٍ أخرى بينما هم يعانون من الجوع وبالتّالي قد ينتهي بهم الأمر إلى أعمال عنفٍ واستيلاءٍ على حقول هذه الزراعات حيث لا يمرّ الطعام أمام الجائع بسهولة، ولذلك فهم يزرعون حاصلات لا يحتاجها الفقراء ولا يعرفون كيف يصنعونها لتحويلها إلى وقود.
بشكل عام ينقسم القادة العرب بشأن الاستثمار الخارجي، خصوصًا في قارّتي أفريقيا وأميركا الجنوبية كمناطق وفرة زراعية للمياه والترب، أو الاستثمار داخليًا في البلدان العربية في السودان وموريتانيا، بخاصة أنّ بعض الدول المستهدف الاستثمار فيها تمنع دخول الاستثمارات الحكومية الخارجية خوفًا من استغلالها في الأعمال الاستخباراتية ضدّ هذه الدول وتسمح فقط باستثمارات القطاع الخاص. بعض الدول الأخرى تمنع قدوم العمالة الخارجية للعمل في مزارعها وتصرّ فقط على استخدام عمالتها المحلّية لتوفير فرص عمل وتوظيف وتقليل نسبة البطالة فيها، ومثال ذلك دولة إثيوبيا التي تمنع كلتا الحالتين.
وفي المقابل، فإنّ القطاع الخاص في الدول العربية طالب بضماناتٍ من حكوماته للاستثمار الزراعي في أفريقيا حيث عدم الاستقرار وتكرار النهب للمعدات والحاصلات واحتمالات التأميم والمصادرة للأموال والمزارع، بحيث تردّ الحكومات أموال القطاع الخاص كافّة في حال المصادرة أو النهب مقابل أن يتعهد المستثمر بتوريد المحصول إلى الوطن وفي حالة عدم توفير حكوماته لهذه الضمانات فسيكون حرًّا في بيع منتجاته إلى أي بلد آخر يدفع أكثر.
وتخشى الحكومات من استغلال القطاع الخاص لهذا التأمين بالتحايل أو الادّعاء أو المُبالغة في تعرّضه لأضرارٍ في استثماراته الخارجية من أجل صرف مبالغ التأمين، وبالتالي فالاختلافات ما زالت قائمة في هذا الشأن. وعمومًا فهناك دول عربية تستثمر كحكوماتٍ مثل دولة الإمارات بينما تستثمر دول السعودية والكويت وقطر والبحرين بالقطاع الخاص مع دعمٍ حكوميّ كبيرٍ لهؤلاء المستثمرين سواء دعمًا مباشرًا أو تكليفًا أو دعمًا عن كل طنّ غذاء يتمّ شحنه وتوريده إلى وطنه مثل توريد الأعلاف من مصر إلى المملكة.
من مشاكل الاستثمار الزراعي خارج الوطن بطء اللوجستيات وإجراءات النقل والشحن وضعف الأمن وتخلّف البنى التحية
أمّا الاستثمار الزراعي في أميركا اللاتينية، فعلى الرَّغم من وفرة الأراضي الزراعية والمياه هناك إلّا أنّ بُعد المسافة التي يستغرق إبحار السفن المحمّلة بالغذاء والسكّر والدواجن واللحوم على سبيل المثال نحو 28 يومًا في المتوسط للوصول إلى البلدان العربية، فإنّ تكاليف الشحن البحري تكون عبئًا على سعر المحصول، ويكون الاستثمار الزراعي في روسيا ورومانيا والمجر وتركيا وجميعها تستغرق إبحارًا أقلّ من عشرة أيام أفضل، ولكنّ الأمر قد يتطلّب توافقاتٍ سياسيةً على ذلك خصوصًا مع الولايات المتحدة.
وقد أثار "البنك الدولي" منذ سنوات عدّة، في إصداره "تحسين الأمن الغذائي في البلدان العربية"، أمر الزراعة خارج الوطن أو الشراء من البورصات الزراعية وأيّهما أفضل، وأشار إلى مشاكل الاستثمار الزراعي خارج الوطن منها بطء اللوجستيات وإجراءات النقل والشحن في الموانئ وتأخّر الموافقات على التصدير وتفشّي الإكراميات والرشوة وضعف خبرات العمالة غير المدرّبة وسرقة الحاصلات وضعف الأمن وتخلّف البنى التحية في أفريقيا وأميركا الجنوبية وغيرها. وأوجز أنّ مشاكل البورصات هي هشاشتها وتأثّرها بالتغيّرات الدولية والحروب والأزمات بخاصة في مناشئ تصدير الغذاء مثلما حدث في أزمة روسيا وأوكرانيا، وأيضًا في أثناء انتشار الأوبئة العالمية مثلما حدث أثناء وباء كورونا وإغلاق أغلب البلدان لموانئها ومطاراتها، ثم مُضاربات البورصة من المحترفين والمجرمين وتحكّم الدول الكبرى في أسعار الحاصلات الاستراتيجية. ولكن على الرَّغم من كل ذلك، فإنّ مشاكل الشراء من بورصات الغذاء أقلّ ويمكن التغلّب على مشاكلها بتوفير مخزون استراتيجي من مختلف صنوف الغذاء لا يقلّ عن خمسة أشهر بدلًا من المعدّلات السائدة بسبعين يومًا فقط ليُسمح بعبور وقت الأزمات والتي غالبًا لا تستغرق أكثر من ذلك باستثناء انتشار الأوبئة.
السودان لا يستطيع تحقيق اكتفاءه الذاتي من الغذاء حتى يكون قدوةً للبلدان العربية لتحقيق كامل الاكتفاء الذاتي
ثم يأتي السؤال المنتشر في الدول العربية وهو هل يصلح السودان لكي يكون سلّة غذاء العرب حتى قبل الاقتتال الحالي؟! فالسودان يمتلك نظريًا نحو 220 مليون فدّان قابلة للزراعة يتمّ زراعة نحو 50 مليون فدّان منها فقط، وأغلبها وبنسبة 83% زراعة على الأمطار وهي زراعة مخاطرة وضعيفة المحصول، بينما تتراجع المساحات المرويّة إلى بضعة ملايين من الأفدنة فقط في منطقة الجزيرة، كما أنّ أغلب أراضيه القابلة للزراعة لا تمتلك البنية التحتية من ترع الريّ ومصارف المياه، والكهرباء والطرق وكذلك المستشفيات، كما أنّ السودان يطلب من المستثمرين أن يتحمّلوا تكاليف توصيل البُنى التحتية اللازمة لزراعة هذه المساحات وهي مُكلفة للغاية وعادةً ما تتحمّلها الحكومات في الدول الجاذبة للاستثمار.
يضاف إلى ذلك الانقسامات الداخلية وقضايا الانفصال في دارفور وشرق السودان ومشاكلها مع جنوب السودان وأوغندا وتشاد وإثيوبيا ومشاكل السدّ الإثيوبي الجديد الذي يهدّد الموارد المائية للسودان ومصر.
ثمّ تأتي النقطة الغالبة، وهي أنّ السودان نفسه لا يحقّق اكتفاءً ذاتيًا من الغذاء ويستورد أكثر من 30% من احتياجاته من الحبوب وكذا من أكثر البلدان الأفريقية التي تتلقّى معوناتٍ غذائيةً من المنظمات الدولية، وهو بذلك لا يستطيع تحقيق اكتفاءه الذاتي من الغذاء حتى يكون قدوةً للبلدان العربية لتحقيق كامل الاكتفاء الذاتي، وبالتالي لا يرى البنك الدولي أنّ السودان يستطيع لا حاليًا ولا مستقبلًا أن يكون سلّة غذاء العرب ليُطعم أكثر من 425 مليون عربي.
(خاص "عروبة 22")