وجهات نظر

عبد الناصر "المُتخيل".. بين الأنصار والخصوم!

سواء سُمّيَتْ وثائق نُشرت أو تسريبات أُخرجت، فإنّ الحوار الذي دار بين جمال عبد الناصر ومعمّر القذافي حول مَن يريدون الحرب حتّى آخر جندي مصري ومَن يتهمونه بالانهزامية والتخلّي عن الكفاح المُسلّح لصالح التسوية السلميّة، فإنّ الحقيقة تقول إنّ هذا الحديث يُعبّر عن عبد الناصر الحقيقي الذي تبنّى خطابًا سياسيًا تحرّريًا اصطدم بحكم طبيعته بالقوى الاستعمارية وإسرائيل وظلّ حتى وفاته يتبنّى جوهر هذا الخطاب، حتّى لو اختلفت وسائله ومفرداته، وبصرف النّظر عن الأخطاء التي وقع فيها أثناء حكمه (1954 ــــ 1970).

عبد الناصر

الحقيقة أنّ تبلْور مشروع عبد الناصر وشعبيته الواسعة بدأ من "لحظة تحرّرٍ وطنيّ" أيّ عقب قرار تأميم قناة السويس في 1956 وهجوم بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر ونجاحهم في احتلال سيناء، وأنّ من كسر قوى العدوان الثلاثي كان أوّلًا صمود المقاومة الشعبية في مدن القناة في وجه العدوان، وثانيًا الدعم الشعبي لعبد الناصر داخل مصر وخارجها، ووجود لحظة إجماعٍ عربيّ داعمٍ لموقفه حتّى وصل بعددٍ من أفراد العائلة المالكة السعودية إلى التطوّع في مصر لمحاربة العدوان الثلاثي، وأخيرًا فإنّ عبد الناصر نال دعمًا دوليًا من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أدّى إلى انسحاب القوات الغازية وبزوغ عصر التحرّر والاستقلال الوطني الذي قاده عبد الناصر.

إنّ مشروع التحرّر الوطني لم يكن شعاراتٍ ثوريةً جوْفاء، فعمّال الموانئ العربية وأمراء من العائلات الحاكمة وكلّ مواطن عربي من المحيط للخليج شعر بأنّه مطالَب بدعم خيار عبد الناصر لأنّه مسّ مشاعر كامنة وأصيلة في نفوس أغلب العرب بضرورة التحرّر والتخلّص من الاستغلال والهيمنة الأجنبية.

تبنّى بناء دولة علمانية في فلسطين يعيش فيها المسلمون واليهود والمسيحيون

إنّ مشروع عبد الناصر عكَس قيمةً تحرّريةً حقيقية، فهو لم يحتلّ أو يضمّ بلدًا عربيًا ويعتبر ذلك "طريق تحرير القدس"، بل أعطى الاستقلال للسودان وظلّ البعض يعتبره المسؤول عن "ضياع" السودان، في حين أنّ الواقع يقول إنّه دافع عن التحرّر والاستقلال فكيف يضمّ بلدًا ولو شقيقًا لمصر من دون إرادة شعبه؟ وتكرّر الأمر نفسه عقب انفصال سوريا وفشل تجربة الوحدة مع مصر، ورفضه أن يرسل قواتٍ مصريةً لفرض الوحدة بالقوّة على الرَّغم من وجود تيّار شعبي داخل سوريا مؤيّد لها وقَبِلَ بمرارة الانفصال.

أمّا موقفه من إسرائيل فالرجل لم يقُلْ طوال تاريخه إنّه ينوي إلقاء إسرائيل في البحر، إنّما تبنّى ما استقرّ عليه مشروع التحرّر الوطني العربي والفلسطيني قبل هزيمة 1967 وهو بناء دولة عِلمانية في فلسطين يعيش فيها المسلمون واليهود والمسيحيون، صحيح أنّ مشروع الدولة الواحدة تخلّت عنه مصر عمليًا عقب قبولها "مبادرة روجرز"، وبدأ الحديث عن "حلّ الدولتيْن" وانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967 وهو التوجّه الذي عادت منظّمة التحرير الفلسطينيّة وقبلته عقب التوقيع على اتفاق أوسلو في 1993.

إنّ مشروع الدولة الواحدة لم يكن لا في الماضي ولا في الحاضر مشروع "مراهقة ثورية" أو خطابًا "حنجوريًا" أو عنصريًا، إنّما هو مشروع مدني يدعو لتفكيك الأساس الصهيوني للدولة العبرية لا إلقاء اليهود في البحر، وهو المشروع الذي لوّح به البعض حاليًا بعد أن أجهضت إسرائيل "حلّ الدولتيْن".

صحيح أنّ عبد الناصر تبنّى مشروع الدولة الواحدة قبل 1967 وتبنّى مفرداتٍ ثوريةً أفقدت العالم العربي لحظة "الإجماع" التي عرفها في 1956 وكانت أحد أسباب انتصاره في المعركة السياسية ضدّ العدوان الثلاثي، وصحيح أيضًا أنّه اعتبر اشتراكيّته وتقدميّته هي أساس بناء الوحدة والتحالف مع دولٍ عربيةٍ ومواجهة أخرى على الرَّغم من أنّها تُمثّل توجّهًا سياسيًا ضمن توجّهات أخرى كان يُفترض أن يقبل ويتعاون مع الجميع كما جرى في 1956 وبعد هزيمة 1967، لأنّ دخول حرب 1967 في ظلّ انقسام عربي ومن دون إعدادٍ وقيادةٍ عسكريةٍ جيدةٍ أدّى إلى هزيمة كبرى.

إنكار بعض أنصاره للأخطاء وتجاهل خصومه لجوهر مشروعه التحرّري لا يُساهم في صناعة مستقبل أفضل

يقينًا عبد الناصر هو الزعيم العربي الوحيد الذي اعترف بهزيمته وتحمّل المسؤولية واستقال، وهو ما لم يحدث مع العديد من الزعماء العرب الذين كابروا ولم يعترفوا بهزائمهم واستمرّوا في السلطة حتّى تعرّضوا لهزائم أكبر دفعت بسببها شعوبهم أثمانًا باهظة.

إنّ تصوير عبد الناصر على أنّه قبل حديثه مع القذافي كان زعيمًا أرعنًا سطحيًا يتبنّى مجموعةً من الشعارات الجوْفاء وأنّه بعد الهزيمة أصبح رجلًا عمليًا يؤمن بالسلام والتسوية السلمية فيه إجحاف كبير بحقّ الرجل. والحقيقة أنّه كان أحد قادة التحرّر الوطني الكبار عربيًا وعالميًا، أخطأ في جوانب وأصاب في أخرى، وأنّ إنكار بعض أنصاره لهذه الأخطاء وتصويره على أنّه قائد تحرّر بعيد عن حسابات السياسة لن يبني مستقبلًا، كما أنّ تجاهل خصومه لجوهر مشروعه التحرّري والتركيز على سلبيّات نظامه، يتجاهل حقائق التاريخ ولا يُساهم أيضًا في صناعة مستقبلٍ أفضل.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن