الكثير من المحللين انخرطوا في تحليل خلفيات زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمنطقة ودلالاتها، وتوقفوا عند أهم مخرجاتها، لاسيما ما يتعلق برفع العقوبات عن سوريا، والحديث المبشر عن قرب التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، هذا فضلا عن تعميق العلاقات الأمريكية الاستراتيجية مع دول الخليج، وتحول هذه الدول إلى فاعل محوري للتعاطي لحل النزاعات الإقليمية، لكن، تبقى نقطة تكثيف التفاوض لوقف الحرب على غزة نقطة محيرة، ليس فقط من جهة استشراف مستقبلها، ولكن أيضا من جهة فهم طبيعة التحولات في الموقف الأمريكي، وهل ترمز في الجوهر لتغير المعادلة الاستراتيجية بشكل كامل، وتبعا لذلك، يسير الموقف الأمريكي في اتجاه التكيف، أم أن الأمر يخضع لاعتبارات أمريكية تكتيكية صرفة؟
في البدء اتجه للتحذير من الانخراط في تحليل الحدث، وضرورة أخذ مسافة كافية للفهم، كما ولو أن الأمر يتعلق بتحول غير عادي في العلاقات الدولية، وأدوار الفاعلين الدوليين بخصوص الحرب على غزة وضرورة التوصل إلى اتفاق وقف الحرب ومستقبل العلاقات الأمريكية الإسرائيلية. وقد تواترت مؤشرات تدعم هذا التوجه، منها تعزز مسار التفاوض الأمريكي مع الفاعل غير الدولي (الحوثيين، حماس) وإجراء هذا التفاوض بمعزل عن تل أبيب، والمبادرة لزيارة المنطقة دون تخصيص زيارة لإسرائيل مع أنها تحتفل بشكل متواز مع ذكرى النكبة (التأسيس الفعلي لدولة إسرائيل) ووصف الحرب بكونها "وحشية" بما يرمز بنحو من الأنحاء لإدانة إسرائيل على جرائم الإبادة.
حتى والرئيس الأمريكي لم يحدد المسؤول من الطرفين عن هذه الوحشية، ثم الإفراج عن الأسير الأمريكي الإسرائيلي عيدان ألكسندر من خلال تفاوض أمريكي مباشر مع حماس بما يؤكد مقولة حماس بأنه "لا عودة للأسرى الإسرائيليين إلا من خلال التفاوض"، والضغط على إسرائيل من أجل إرسال وفدها المفاوض إلى الدوحة، ثم الضغط على نتنياهو من أجل توسيع صلاحية هذا الوفد من أجل التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب، وحديث الرئيس الأمريكي عن الخطوات المتتالية والمدروسة لإنهاء الحرب في غزة، بما في ذلك إرسال رسائل متعددة عبر مبعوثيه إلى إسرائيل بأن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية في وقف الحرب، وأن إصرار تل أبيب على عكس ذلك يعني السير في الاتجاه المعاكس لمصالح واشنطن.
في الواقع، تبدو هذه المؤشرات، إلى جانب مؤشر رفع العقوبات عن سوريا والإعلان عن قرب التواصل إلى اتفاق نووي مع إيران صادمة لإسرائيل، وتسير على الأقل ضد مصالح حكومة بنيامين نتنياهو، التي لا تثق في سوريا أحمد الشرع، وتتطلع إلى عمل عسكري يجهز على البرنامج النووي الإيراني. لكن زخم هذه المؤشرات، لا يعني ضرورة تغير الرؤية الأمريكية تجاه إسرائيل، ولا حتى رسم رؤية مختلفة يراد عن طريق الضغط إلزام تل أبيب بمفرداتها، فقد وردت في الزيارة مفردات أخرى تدل على العودة لرؤية ترامب السابقة، أي توسيع دائرة التطبيع ضمن الاتفاقات الإبراهيمية، وتوفير مناخ من الهدوء والاستقرار الطويل في المنطقة، الذي يخدم هدف "اندماج" إسرائيل في محيطها الإقليمي.
البعض لم ير في زيارة ترامب غير البعد التجاري والاستثماري، فالرجل جاء في ثلاثة أيام ليحصد قرابة ثلاثة تريليونات دولار كاستثمارات خليجية لصالح بلده، وأنه في سبيل ذلك، أخذ بعض المسافة التكتيكية عن تل أبيب، وغير لغته المتواطئة معها في موضوع نزع سلاح حماس وطرد قادتها إلى الخارج، وبدأ يتحدث عن جهة مهنية مستقلة لإدارة غزة، مع إلحاح شديد على موضوع إدخال المساعدات الإنسانية وإنهاء سياسة تجويع قطاع غزة.
الواقع، أن ثمة عناصر مهمة ساهمت في تعديل الرؤية الأمريكية، منها أولا صمود المقاومة واستمرارها في المواجهة العسكرية وتكبيد العدو كلفة عسكرية كبيرة، واقتناع واشنطن باستحالة القضاء على حماس عسكريا، وحالة الاستنزاف التي تعيش عليها إسرائيل عسكريا واقتصاديا واجتماعيا فضلا عن عزلتها الدولية، ثم حالة الإحراج الدولي الذي يترتب عن الاستمرار في تجويع الشعب الفلسطيني، وقناعتها بأن تل أبيب لا تحمل أي رؤية لما بعد الحرب، وأن استمرار الحرب بهذه الطريقة يعرض المنطقة إلى التوتر واللاستقرار، لاسيما وأن حكومة نتنياهو تضرب كل مرة جنوب لبنان، وتشن هجمات على التراب السوري، بما أنذر بحصول توتر إسرائيلي تركي شديد، اضطر واشنطن للتدخل لاحتوائه.
المؤشر الإضافي الذي لا ينبغي تجاهله هو الموقف العربي، الذي أظهر حالة من التراخي في التجاوب مع إدارة الرئيس الأمريكي في سياسته المستقبلية في دول الخليج بسبب دعمه وانحيازه للرؤية الإسرائيلية لاسيما قضية التهجير وإسناد إبادة قطاع غزة، وتجريف الضفة وتوسيع الاستيطان بها، فضلا عن سياسة تهويد القدس الشريف.
واشنطن قرأت بشكل براغماتي كلفة استمرارها في سياسة الضغط على العرب وإسناد الموقف الإسرائيلي، واتجهت لإعادة تعريف مصالحها، وتحيين سياستها في المنطقة، مستثمرة في ذلك تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة (لبنان وسوريا وحتى العراق نسبيا) وتراجع النفوذ الروسي فيها (في سوريا) وتنامي الدور التركي في المنطقة لاسيما في سوريا والشراكة التركية الواسعة مع دول الخليج.
عنوان السياسة الأمريكية الجديدة تعزيز الشراكة مع دول الخليج، واعتبارها محورا مركزيا لإدارة وحل المشاكل الإقليمية، وتعزيز الشراكة الأمريكية الخليجية التركية في اتجاه خلق شروط استقرار بعيدة المدى في المنطقة، تتأسس على توسيع المصالح الأمريكية فيها، وضمان حسن الجوار الإقليمي (عدم السماج بوجود دولة معادية لإسرائيل في المنطقة) والعمل على تحقيق هدنة طويلة بين غزة وتل أبيب، لا تتولى فيها حماس الشأن الحكومي والإداري بالقطاع، وأن تتوقف العمليات العسكرية بين الطرفين.
هذه الرؤية الأمريكية الجديدة التي حظيت بدعم عربي تركي، بقيت فيها نقطة عالقة، هي الموقف الإسرائيلي، وما إذا كان سيدعم سياسة واشنطن ويجاريها لمصالح استراتيجية بعيدة، أم أنه سيغلب الرؤية الآنية على ما سواها، ويفسد بذلك الخطة الأمريكية. رؤية تل أبيب الأمنية تتأسس على معطيين: الأول وهو أن إيران ومحاورها في الإقليم تمثل تهديدا استراتيجيا لها، وأنه في وجود الحرس الثوري الوصي الفعلي على البرنامج النووي، لا يمكن الاطمئنان على أي اتفاق نووي، وأنه لا بديل عن ضرب هذا البرنامج، وأنه بدلا من خوض حرب استنزاف مع محاور إيران، يجدر قطع "رأس الحية" لا أطرافها". والثاني، أنه في ظل وجود حماس والفصائل الفلسطينية المسلحة، فإنه لا أمن لإسرائيل، وأن السابع من أكتوبر سيتكرر، ولذلك لا بديل عن إنهاء الوجود العسكري لحماس والفصائل الفلسطينية المسلحة.
واشنطن لا تجادل في هذين المعطيين، لكنها ترى أن شروط المرحلة لا تساعد على تحقيق الهدفين، وأنه ينبغي الاكتفاء بما تحقق من مكتسبات، وقلب التكتيك لجهة تحقيق هدف الاندماج الإقليمي، لخلق شروط إقليمية، تقضي على محاور إيران في المنطقة، وتنهي أجواء التوتر الإقليمي الذي كانت تستثمرها حماس في تقوية وجودها العسكري وتأمين تسلحها.
التركيب بين الرؤيتين ممكن، بوجود نتنياهو وبغير وجوده. لحد الآن تجرب واشنطن خيار التفاوض مع حكومة نتنياهو لدفعها للتكيف مع الرؤية الجديدة إذ تعتقد أن وجود حكومة تقبل بوقف الحرب أفضل بكثير من انتظار انتخابات إسرائيلية سابقة لأوانها تفرز حكومة يمكن أن تقوم بالمهمة، لكن، في حال لم يتم التوصل لشيء، فإن المستقبل سيكون مفتوحا على سيناريوين اثنين: إما أن تفسد تل أبيب سياسة واشنطن وتربكها، وفي هذه الحالة سنرى امتدادا لسياسة الحرب وتعمق المشكل الإنساني واحتمال تصاعد التفكك الداخلي في إسرائيل، وإما أن يتم اللجوء لآخر الكي، أي العمل على إسقاط حكومة نتنياهو.
(القدس العربي)