تقدير موقف

ترامب هو ترامب!

صباح السبت، بتوقيت منطقتنا المنكوبة، وربّما قبل أن تحطّ طائرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في واشنطن، عائدًا من جولته "المليارية"، واستكمالًا لما بدأه بنيامين نتنياهو من تطهيرٍ عِرقيّ، أو "تنظيف" للقطاع الفلسطيني كما أسماه ترامب لا غيره، أعلن جيش الاحتلال رسميًا بدء عملية'Gideon's Chariot' ، توسيعًا لنطاق الحرب على قطاع غزّة المحاصَر والمُحتل. الجنود: إسرائيليون، والأسلحة والخطة (إن قرأنا تصريحات ترامب ذات الصّلة): أميركيّتان.

ترامب هو ترامب!

المُصادفات قد تكون حبلى بالدلالات. إذ قد يكون أيضًا من باب المُصادفة لا أكثر، أنّه في اليوم ذاتِه الذي يعود فيه ترامب من رحلته، وتنعقد فيه "قمّة العرب" في بغداد لمتابعةٍ مفترضةٍ "لقرارها القاهري" قبل شهريْن لا أكثر بمواجهة خطط تهجير فلسطينيي غزّة، تعلن وسائل إعلام أميركية عن خطةٍ ترامبيةٍ "جادّة" لتهجير مليون من الغزّيين إلى ليبيا في مقايضةٍ "وقحة" لحكومة طرابلس بملياراتٍ من الأموال الليبية المُجمّدة. السماسرة يُجيدون المقايضة، لا شكّ في ذلك.

من باب المصادفات الدالّة أيضًا أن تحلّ ذكرى "النكبة" السابعة والسبعين، مع زيارة الرئيس، الذي يملك منع تكرار نكبة الفلسطينيين؛ إبادةً وتهجيرًا ـ لو أراد. ولكن الأمر لم يكن أبدًا على أجندته، أو "يمسّ محفظته".

لا شيء "أميركيًا-إسرائيليًا" سيتغيّر لا الإمدادات العسكرية ولا الغطاء الديبلوماسي ولا حتّى خطة إخلاء غزّة من الفلسطينيين

يُخطئ من يحاول إفهامنا أنّ ما بدا فتورًا في العلاقات بين "دونالد وبيبي"، لأسبابٍ شخصيةٍ بحتة يُحدثُ أثرًا حقيقيًا في الأرض، أو أنّ ترامب بعد صورته البرّاقة في الجامع الخليجي الفخم، غير ترامب قبلها. ترامب هو ترامب، وإنْ أسأنا، بحسن نيةٍ أو غير ذلك قراءته.

"You're Fired"، ربّما تكون العبارة الترامبية الشهيرة، التي ارتبطت في أذهان الجمهور ببرنامجه التلفزيوني الأول، هي عنوان علاقته الآن مع رئيس الوزراء الإسرائيلي "المُتعجرف"، ولكن، على الأرض لن يعنيَ ذلك أكثر من أنّ لقاءاتٍ باسمةً بين الرجليْن لن يكون لها مكان "الآن". عدا ذلك، لا شيء "أميركيًا - إسرائيليًا" سيتغيّر. لا الإمدادات العسكرية، ولا الغطاء الديبلوماسي، ولا الحماية من قرارات المحاكم الدولية، ولا حتّى خطة ترامب لإخلاء غزّة من الفلسطينيين، والتي يعتبرها نتنياهو جائزته الكبرى، أو بالأحرى النّصر الإسرائيلي الأكبر بعد "إقامة الدولة" قبل 77 عامًا. بالمناسبة، ترامب لم يتردّد في التذكير بخطته تلك في تصريحاته "الخليجية".

كان باراك أوباما، صاحب المبادئ متسقًا مع مبادئه عندما بدأ ولايته الأولى بزيارة مصر والسعودية، بعد العراق وتركيا بدلًا من إسرائيل. وكان دونالد ترامب؛ السمسار متسقًا مع مصالحه عندما بدأ ولايته الأولى بزيارة إسرائيل ليعلن من هناك القدس عاصمةً "موحّدةً وأبديةً" للدولة العبرية، كما كان أيضًا متسقًا مع مصالحه ونرجسيّته عندما بدأ ولايته الثانية بزيارة الخليج "الثري" ليعود بما عاد به من مليارات، وصفقات، وأرقام، وصور.

صحيح أن دونالد ترامب ليس جو بايدن؛ الذي أعلن "عقيدته" الصهيونية أكثر من مرّة، فترامب لا ينشغل كثيرًا بما هو عقائدي إلا بمقدار ما سيصب في خزانته (النقدية، أو النرجسيّة). ولكن ترامب، كسمسارٍ ميكيافيلي من الطراز الأول يُجيد لعبة "الثلاث ورقات"، فضلًا عن اللعب بالكلمات. هو منشغل بمحفظته؛ التي لا تشبع، وبشعاره الأثير "Make America Great Again" وبرغبته التي لم يكتمْها للحصول على "نوبل". لا حاجة عنده لنتنياهو (الآن)، فلا صفقات تريليونيّة، ولا دور يمكن أن تلعبه إسرائيل في الحرب التجارية بينه وبين الصين أو أوروبا. فليتفرغ نتنياهو "لإفراغ غزّة من سكانها". ترامب قالها يومًا بوضوح، إنّه ترك مسألة غزّة للإسرائيليين. ليتسنّى له بعد ذلك إقامة مشاريعه العقارية؛ منطقة تجارة حرّة، كما قال أثناء زيارته، أو ريفييرا الشرق الأوسط، كما كان قد أعلن في فبراير/شباط، بعد أسابيع فقط من عودته إلى البيت الأبيض.

ترامب يستطيع إيقاف إسرائيل لكن ذلك ليس على أجندته

الحقائق لا تنفي بعضها، فحتّى لو كان الثمن مليارات أو استثمارات أو حفاوة استقبال من النّوع الذي نعرف أنّه يُطرب الضيف، فمن الجميل أنّ الرئيس الأمريكي سكت (أو استخدم، ككلّ سمسار كلتا أذنيْه) حين حرص محمد بن سلمان على الإشارة في كلمته إلى مبادرة السلام العربية، والتي يقوم جوهرها على ربط العلاقات الطبيعيّة مع إسرائيل بعودة الحقوق لأصحابها. ومن الجميل أن ترامب ألغى العقوبات على سوريا، والتي لم تعد منطقيةً بعد الإطاحة بالأسد. ومِن الجميل أنّ حاملة الطائرات الأميركية "هاري ترومان" غادرت المنطقة، بعد اتفاق مع الحوثيين، ومن الجميل أيضًا أنّ اتفاقًا مع إيران يعالج إلغاءه من قبل ترامب نفسه أصبح أقرب من أي وقت مضى. ويُحسب للوسطاء "الخليجيين" بالتأكيد نجاحهم في حلحلة هذا الملف أو ذاك. ولكن هذا كلّه لا يعني في أي حال انقلابًا أميركيًا على التحالف "الاستراتيجي" مع إسرائيل، ولا تغييرًا، ولو طفيفًا في حال الفلسطينيين، ولا كفًّا لعربدة آلة الحرب الإسرائيلية (الأميركية بالتوصيف) في المنطقة بأسرها، ولا وعدًا، أو حتّى إشارةً على سبيل السّهو أو المجاملة الديبلوماسية ـ إلى دولةٍ فلسطينية؛ وجودها وحده كفيل بإقرار السلم والأمن في المنطقة. كما أنّه، بالتأكيد لا يعني، كما يظن البعض - أو يُروّج ـ أنّ هناك من احتلّ "مكانة" إسرائيل في المعادلة الأميركية الشرق أوسطية.

الحقائق لا تنفي بعضها. فحقيقة أنّ هناك فتورًا في العلاقة "الشخصية" بين الرجلين، لا ينفي حقيقة أنّ ترامب قدّم، ولا يزال، لإسرائيل ما لم يقدّمه رئيسٌ من قبله، كما لا ينفي حقيقة أنّ واشنطن كانت، وما زالت الدّاعم الأول للدولة اليهودية، والضامن الاستراتيجي لـ"هيْمنتها" على المنطقة بأكملها. لا تغرّنكم الصور، ابحثوا في الحقائق والتفاصيل.

نتنياهو مستمرٌ في حربه، وفي التطهير العِرقي، وفي رفضه "المبدئي" لقيام دولةٍ فلسطينيةٍ "أيًّا كانت التفاصيل"، على الرَّغم من قرار مجلس الأمن الرقم 2735 الصادر قبل عامٍ كامل، والذي صاغته الولايات المتحدة ذاتها.

ونتنياهو مستمرٌّ في حربه على لبنان، وقصفه للعاصمة بيروت، على الرَّغم من اتفاق وقف إطلاق النار (نوفمبر/تشرين الثاني 2024) والذي يُفترض أنّ واشنطن ضمن ضامنيه.

هل يملك ترامب، رئيس الدولة التي يقول إنّها الأقوى في العالم إيقاف ذلك كلّه؟ نعم يستطيع، ولكن ذلك لم يكن أبدًا على أجندته.

لا تعطوا لتجنّبه زيارة إسرائيل (هذه المرّة) أكثر من حجمها الطبيعي، كلّ ما هنالك أنّ الرّجل لم يرد أن يفسد الأجواء التي أرادها مبهجةً لرحلته "التريليونية"، بكلامٍ خارج سياقها. فبغضّ النظر عن الفتور الطارئ، وصدام "الإيغو" بين صاحب البيت الأبيض، وبين الذي يظنّ أنّه أيضًا كذلك؛ بحكم ما يملك من أوراق ضغطٍ "فاعلة" في الداخل الأميركي، فلا شيء عند نتنياهو يُعطيه لترامب وهو عائد إلى واشنطن يتباهى بما عاد به من صفقات ومليارات... وصور.

الرئيس السمسار يعود متباهيًا بأرقام صفقاته في الوقت الذي يتباهى فيه مجرم الحرب الإسرائيلي بأرقام ضحاياه

"ترامب أوّلًا"، عقيدة الرئيس الأميركي التي تضع الأولوية المُطلقة للمليارات والاستثمارات، لا تتعارض في الواقع مع "نتنياهو أوّلًا" عقيدة رئيس الوزراء الإسرائيلي المتطرّف التي تدفعه إلى حرب، نهايتها ستعني نهاية ائتلافه الحاكم، أو بالأحرى نهايته سياسيًا.

"ترامب أوّلًا" لا تتعارض بالضرورة مع "نتنياهو أوّلا". فالرئيس السمسار، يمكنه أن يعود إلى بيته الأبيض متباهيًا بأرقام صفقاته، في الوقت الذي يتباهى فيه مجرم الحرب الإسرائيلي بأرقام ضحاياه. لا علاقة لهذا بذاك، إلّا في مخيّلة بعضنا، أو بالأحرى في إعلامهم.

كممثل تلفزيوني مغمور، يبحث ترامب دائمًا عن الصورة والخبر المثير "Trend"، هو لم يتردّد مثلًا، عشية وفاة البابا فرانسيس في أن ينشر، على حسابه "الرسمي" على منصته الخاصة للتواصل الاجتماعي "Truth Social" صورةً مصطنعةً له يرتدي فيها ثياب البابا الرّاحل، والأدهى أن يُعيد الحساب "الرسمي" للبيت الأبيض نشر الصورة؛ غير اللائقة بأيّ معيار. والأدهى من هذا أو ذاك أنّه لم يتردّد في أن يخرج بعد ذلك ليتنصّل من الأمر برمّته (!) ولكن هذا هو ترامب، وهكذا ينبغي أن نفهمه، من دون إفراط، أو تفريط.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن