كشفت زيارة دونالد ترامب إلى منطقة الخليج، على الرَّغم من طابعها المالي والاقتصادي الذي حاز بمقتضاه استثمارات بتريليونات الدولارات في شرايين الاقتصاد الأميركي، عن حقائق جديدة في معادلات الإقليم وحسابات المصالح والقوى فيه. في الوقت نفسِه، كشفت القمّة العربية الرابعة والثلاثين، التي انعقدت في بغداد، مدى عجز ما كان يُطلق عليه العمل العربي المشترك عن تجاوز الإنشاء السياسي، مهما ارتفعت نبرته، إلى الفعل المؤثّر في القضية الفلسطينية، الذي ينظر إليه الآخرون على محمل الجدّ.
يصعب التعويل في أوضاع النظام الإقليمي العربي المترنّحة على أي مقاومة جدّية استنادًا إليه لوقف مشروع الشرق الأوسط الجديد في نسخته "الترامبية".
مثّلت اتفاقية "كامب ديفيد" (1978) ضربةً أولى على العمود الفقري همّشت دور الدولة العربية الأكبر والأهم في الصراع العربي - الإسرائيلي وأضعفت المَناعة العربية العامّة أمام عواصف التحدّيات السياسية.
تبعتها اتفاقيتا "وادي عربة" في الأردن و"أوسلو" التي أسّست لـ"سلامٍ بلا أرض" حسب تعبير المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد.
تبدو المنطقة على وشك أن تدفع فواتير جديدة في "النسخة الترامبية" للشرق الأوسط الجديد
في ولاية ترامب الأولى، أفضت "الاتفاقيات الإبراهيمية" إلى ترسيخ ما يطلق عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: "السلام من أجل السلام". بصياغةٍ أخرى: "التطبيع المجاني".
عندما سقطت بغداد (2003)، بدا ترنّح النظام العربي، الذي تواطَأ في الحرب عليها، كأنّه جثة تسدّ الطريق تنتظر من يزيحها.
دعت وزيرة الخارجية الأميركية في ذلك الوقت، كوندوليزا رايس، إلى "شرق أوسط جديد" لتفكيك العالم العربي وإعادة رسم خرائطه من جديد. وبعد أكثر من عقديْن على "نسخة رايس"، تبدو المنطقة على وشك أن تدفع فواتير جديدة في "النسخة الترامبية" للشرق الأوسط الجديد. الأهداف نفسها، لكنّ المقاربات تختلف.
في الأوضاع المستجدّة تتبدّى حسابات جديدة للاعبيْن الإقليمييْن التركي والإيراني، اللذين تقدّما عند سقوط بغداد لملء الفراغ الاستراتيجي في المشرق العربي، فالتاريخ لا يعرف الفراغ.
يحاول اللاعب التركي الآن إعادة التمركز في قلب معادلات الإقليم كقيادةٍ مفترضةٍ بعد الدور الذي لعبه في إطاحة نظام بشار الأسد من دون أن يكون مستعدًّا لدفع أي أثمان وتكاليف في نصرة القضية الفلسطينية، التي تمثّل ميزانًا حسّاسًا لأوزان الدول والقوى ومدى جدارتها في طلب القيادة.
الأسوأ أنّ تركيا تطلب، بدعمٍ من ترامب، تقاسم النفوذ مع إسرائيل في سوريا. لم يكن استعداد ترامب لرفع العقوبات عن سوريا محض استجابةٍ لدعوةٍ تركية، أو عربية، بدواعٍ إنسانيةٍ لتخفيف المعاناة عن شعبها المُنهك بقسوة، أو ردعًا لإسرائيل في سعيها لإحكام الحصار الاقتصادي عليه. إنّها رؤية سياسية تحاول أن تؤسّس لتحالفاتٍ معلنةٍ على حساب الوطن السوري، والانعكاسات واصلة حتمًا إلى لبنان.
في حوارٍ استغرق 33 دقيقةً مع الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشّرع خاطبه ترامب قائلًا: "إن ماضيك معقّد وصعب، لكنّك الرجل المناسب لهذه المنطقة الصعبة".
كان ذلك كلامًا ملغّمًا في رسائله وتبعاته. لا تستبين فيه حدود ما تقبله الولايات المتحدة في التعاطي مع من كانت تصفهم بـ"الإرهابيين". إنّها المصالح والاستراتيجيات، ولا شيء غيرها. طلب ترامب تطبيعًا كاملًا مع إسرائيل وترحيل المنظمات الفلسطينية خارج سوريا، باعتبارها "إرهابية" وإبعاد المقاتلين الأجانب. وافق "الشرع" على طلبات "ترامب". هكذا مضى الأمر.
لا تتوافق إسرائيل تمامًا مع الإدارة الأميركية في الملفين التركي والإيراني
كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حاضرًا في المشهد وطرفًا أصيلًا فيه استنادًا إلى علاقته الوثيقة مع ترامب وأدواره الوظيفية في استضافة المحادثات الروسية - الأوكرانية لبحث فرص وقف إطلاق النار بينهما على ما يطلب ويلحّ "البيت الأبيض".
المستقبل التركي ملغّم باعتباراتٍ متعارضة، بعضها داخلي في مواجهة معارضي أردوغان، وبعضها إقليمي حيث يصعب هضم الانقلاب الحادّ على إرث الادّعاءات بنصرة القضية الفلسطينية.
بصورةٍ أخرى، يجد اللاعب الإيراني نفسه على حافّة الخيارات الصعبة بأثر تطوريْن رئيسييْن، أوّلهما، ما ألمّ بحلفائه الإقليميين من تراجعاتٍ فادحةٍ تؤثّر بالضرورة على أدواره وأوزانه في إقليمٍ مضطرب... وثانيهما، ما قد تسفر عنه المفاوضات مع واشنطن بشأن مشروعه النووي.
يراهن ترامب على ترويض اللاعب الإيراني لإعادته إلى أدواره القديمة في خدمة الاستراتيجيات الأميركيّة على نحو ما كان جاريًا أيام الشاه. هذه مسألة يصعب تصوّر حدوثها في أي مدى منظور، لكنّها ماثلة في المخيال الاستراتيجي الغربي.
إذا تحلّلت إيران، تحت الضغوط، من مستوى التزامها بالقضية الفلسطينية فإنّها تخسر في اللحظة نفسِها أي رصيد شعبي لها.
في الملفين التركي والإيراني لا تتوافق إسرائيل تمامًا مع الإدارة الأميركية، إنما تحاول أن تمنع رفع العقوبات عن سوريا لمقتضى التوسّع الاستيطاني فوق أرضها، وأن تُفشل في الوقت نفسه المفاوضات مع إيران حتّى يمكنها التحريض على عمل عسكري كبير ضدها.
لا يملك ترامب ولا نتنياهو أي تصوّرات عن "اليوم التالي" بعد إنهاء الحرب في غزّة، ولا أي تصوّرات متماسكة للشرق الأوسط الجديد.
نتنياهو بات عبئًا على إسرائيل نفسها، وترامب رجلٌ لا يمكن توقعه، يفعل الشيء ونقيضه.
في 48 ساعة قضاها في المنطقة، دعا ثلاث مرات إلى إنهاء الحرب في غزّة، كما يراها الإسرائيليون، ولم يتّخذ أي إجراء يوقف معاناة التجويع في غزّة.
لا أزمة في العلاقات الأميركية - الإسرائيلية إنّها "زوبعة في فنجانٍ" من القهوة العربية
"غزّة مكان بغيض. وأريدها أن تصبح منطقة حرّية".. هكذا عاد بطريقةٍ ملتويةٍ إلى مشروعه للسيطرة عليها.
"لا أعلم إن كان نتنياهو قادرًا على إبرام صفقة".. كان ذلك تصريحًا آخر يُفسح المجال أمام اليمين الصهيوني المتطرّف أن يتصرّف في ملف مفاوضات الدوحة على النّحو الذي يروق له من دون ضغط حقيقي من واشنطن.
"سنعمل مع الإسرائيليين على إطلاق سراح الأسرى".. كان ذلك تصريحًا أكثر وضوحًا عن أولوياته الحقيقيّة، مع من يعمل؟... وإلى أي حدٍّ يمضي في أي ضغوطٍ مفترضةٍ على تل أبيب؟
لا أزمة في العلاقات الأميركية - الإسرائيلية. إنّها في أقصى تقدير "زوبعة في فنجانٍ" من القهوة العربية، أو الأوهام العربية على أعتاب شرق أوسطٍ جديدٍ في نسخته الترامبية.
(خاص "عروبة 22")