في ضوء ذلك، تتزايد الدعوات إلى تبنّي "نموذجٍ اقتصاديّ" جديدٍ يقوم بشكلٍ أساسيّ على تصدير السلع، مدعومًا بقاعدةٍ صناعيةٍ وتكنولوجيةٍ أكثر تنوّعًا ومتانة[1]. ومن هذا المنطلق، تهدف هذه المذكّرة القصيرة إلى تقييم جدوى هذا التحوّل، وإمكانية إعادة توجيه النموذج الاقتصادي اللبناني نحو صادرات السلع والمنتجات التّكنولوجية[2].
لماذا ارتكز الاقتصاد اللبناني على تصدير الخدمات؟
في أدبيّات الاقتصاد، تنشأ الميزة النّسبية إمّا بفعل العوامل الطبيعية (الجغرافيا والموارد)، أو نتيجة عوامل مكتسبة من خلال السياسات العامة وتنمية المهارات. في حالة لبنان، ترسّخت الميزة النّسبية في قطاع الخدمات في وقتٍ مُبكّر، نتيجة مزيجٍ من الموقع الجغرافي الاستراتيجي على شرق البحر المتوسط والمُناخ الجميل، إضافة إلى السياسات الاقتصادية الليبيرالية ومستوى التعليم المقبول وذوق السكّان.
بين عامي 1950 و1975، أي قُبيل اندلاع الحرب الأهلية، بلغ تصدير الخدمات ذروته، وكانت تُعتبر الأفضل في المنطقة. وبعد انتهاء الحرب في عام 1990، استعادت هذه القطاعات شيئًا من عافيتها وحقّقت أداءً جيدًا حتى عام 2018، لكنّها لم تَعُد إلى تألقها السابق.
زادت حدّة تراجع الاقتصاد الخدمي بفعل عوامل سياسية وأمنية أبرزها ما يوصف بحروب "المقاومة" العبثيّة
ومع اندلاع الأزمة المالية في أواخر 2019، تفاقم تراجع الاقتصاد الخدمي، وزادت حدّة هذا التراجع بفعل عوامل سياسية وأمنية، أبرزها ما يوصف بحروب "المقاومة" العبثيّة التي أطلقها "حزب الله" على الأقلّ من تشرين الأول 2023.
نتيجةً لذلك، تراجعت مكانة لبنان كمركزٍ إقليميّ في مجالاتٍ حيويةٍ كالسياحة، القطاع المصرفي، الرعاية الصحية، التعليم العالي، الإعلام والموانئ. هذه القطاعات أصبحت اليوم ربّما مجرّد ظلٍّ لما كانت عليه في العقود الذهبية.
ما مدى توافق البيانات مع هذا التحليل؟
للإجابة على هذا السؤال، نستخدم ما يُعرف بـ"المُصطلحات النّسبية"، وهي الأداة التحليلية الملائمة في سياق نظريّة التجارة والسياسة التجارية.
وِفقًا لبيانات عام 2018 (وهو عامٌ يُمثّل بشكلٍ تقريبيّ الوضع الاقتصادي للبنان قبل الأزمة) بلغت قيمة إجمالي الصادرات (سلع وخدمات) نحو 11.4 مليار دولار، توزّعت كالآتي:
• صادرات السّلع: 3.7 مليارات دولار.
• صادرات الخدمات: 7.7 مليارات دولار.
ما يعني أنّ صادرات السلع كانت تعادل 47% فقط من صادرات الخدمات، أي أقل من النّصف.
أمّا على صعيد الواردات، فقد بلغت قيمة إجمالي الواردات في العام نفسِه 26.1 مليار دولار:
• الواردات السلعية: 19.8 مليار دولار.
• الواردات الخدمية: 6.3 مليارات دولار.
والأمر اللّافت هنا أنّ صادرات الخدمات تفوق وارداتها (7.7 مليارات مقابل 6.3 مليارات دولار)، ما يعزز فرضيّة أنّ الميزة النّسبية للبنان كانت تكمن في قطاع الخدمات. في المقابل، الفجْوة الكبيرة بين صادرات وواردات السلع (3.7 مليارات دولار مقابل 19.8 مليار دولار) تشير إلى قصورٍ واضحٍ أو ميزةٍ نسبيةٍ غير مؤاتية في قطاع السلع[3].
التحسّن النّسبي في صادرات السلع يبدو مرتبطًا إلى حدٍّ كبير بالانخفاض الحادّ في سعر صرف الليرة
بالنّسبة إلى سنوات الأزمة، على الرَّغم من أنّ بيانات إدارة الإحصاء المركزي لا تتجاوز عام 2021 للأسف، إلّا أنّها تُتيحُ نسج قصةٍ شيّقة. فعلى الرَّغم من استمرار الخدمات كمصدرٍ رئيسيّ للميزة النّسبية للبنان (باستثناء عام 2021 الذي شكّل ذروة الانهيار الاقتصادي)، إلا أنّ أداء صادرات السّلع تحسّن نسبيًا بشكلٍ ملحوظٍ مقارنةً بواردات السّلع، وحتّى مقارنةً بصادرات الخدمات نفسها. فبحسب المؤشّرات، ارتفعت نسبة صادرات السِّلع إلى واردات السلع من 18% في عام 2018 إلى 31% في عام 2021، ما يعني أنّ لبنان بات يصدّر سِلعًا أكثر مقارنةً بما يستورده، ولو بشكلٍ نسبي. أمّا نسبة صادرات السلع إلى صادرات الخدمات فقد قفزت من 47% إلى 123%.
لا يُتوقّع أن يكون قد شهد هذا النّمط تغيّرًا جوهريًا في السنوات اللّاحقة، إلّا الزيادة المُتوقعة في صادرات الخدمات في عامَي 2022 و2023. وما يلفت الانتباه بشكلٍ خاصّ هو أنّ هذا التحسّن النّسبي في صادرات السلع يبدو مرتبطًا إلى حدٍّ كبير - مع بقاء العوامل الأخرى على حالِها - بالانخفاض الحادّ في سعر صرف الليرة اللبنانية، الذي تراجع من متوسط 1,507.5 ليرة إلى نحو 12,413.7 ليرة للدولار الأميركي خلال الفترة من 2018 إلى 2021.
[1] من بين آخرين، انظر: الطويلة، ج. "ما بعد المحسوبية: نموذج تنافسي جديد للبنان"، كونراد أديناور ستيفتونغ، تشرين الثاني 2021؛ بساط، ع. وديوان، أ. "نحو لبنان جديد منتج"، معهد عصام فارس، الجامعة الأميركية في بيروت، آذار 2025.
[2] ضع في اعتبارك أنّه من حيث التحوّل الهيكلي، لا بدّ أن تزداد حصة الخدمات في الاقتصاد بمرور الوقت. في عام 1973، كانت الحصص في الاقتصاد على النحو التالي: 9.1% زراعة، و20.4% صناعة، و70.5% خدمات. بينما كانت في عام 2021 كما يلي: 5.2% زراعة؛ و10.8% صناعة؛ و80% خدمات.
[3] كان لصادرات الخدمات أيضًا مضاعف دخل أكبر من الصادرات السلعية: 2.12 مقابل 1.35. والسبب هو أن الخدمات أكثر كثافة في العمالة ولا تتطلّب الكثير من الواردات الوسيطة. انظر، "هل يمكن للبنان أن يحوّل اقتصاده القائم على التصدير؟ مذكرة موجزة"، مدوّنة بنك "بلوم إنفست"، إضاءات، شباط 2022.
(خاص "عروبة 22")