ممّا لا شكّ فيه أنّ "المهاجِر - العامِل"، يساهم في اقتصاد الدول المستقبلية للمهاجرين العمال، بحيث ساهم هؤلاء في بناء مجتمعات، مثل أوروبا وأميركا وبعض دول الشرق الأوسط، إذ كان لهم دور في تنفيذ ورش كبرى، للبنية التحتية، ويساهمون الآن في دول عدّة في مجال الخدمات والصناعات، بل يساهمون كذلك في المجال التّكنولوجي والعلوم، من خلال "هجرة الأدمغة"، إضافةً إلى مساهمتهم بالطبع في ضخّ أموالٍ في خزينة الدول، التي تشغلهم من خلال تحصيل الضرائب، وهذا ما أكّدته منظمة التعاون الاقتصادي.
وفي دراسةٍ حديثةٍ أجريت في فرنسا، هناك تفنيد ودحض لفكرةٍ خاطئةٍ حول تأثير العمالة المهاجرة في سوق العمل بشكلٍ سلبيّ والتسبّب في البطالة، إذ تبيّن أنّ العمالة المهاجِرة لم تكن هي السبب في خسارة المواطنين للوظائف. وبالعكس، هناك دول أوروبية عدّة الآن في أمسّ الحاجة الى مهاجرين وعمالة ماهرة في مجالات متعدّدة ومن ذلك مثلًا التمريض ورعاية المسنّين.
"رخصة العمل" أصبحت تمنح العامل الأجنبي فرصة العمل داخل الاتحاد الأوروبي وعدم التقيّد بعقد خاص بشركة أو مؤسّسة
لذلك، عمل البرلمان الأوروبي على تحسين الوضع القانوني لعمل الأجانب، ليُصبح الاتحاد الأوروبي جاذبًا للعمالة وذلك منذ يناير/كانون الثاني 2024. وهكذا فإنّ "رخصة العمل" للعامل الأجنبي أصبحت تمنح العامل فرصة العمل داخل الاتحاد الأوروبي وعدم التقيّد بعقدٍ خاصّ بشركةٍ أو مؤسّسة، حسب ما تؤكده المنصّة الرقمية للبرلمان الأوروبي، كما يسهر البرلمان نفسه على تجديد القانون الخاص بالرّخصة الموحّدة للعمل، لكنّ هذا القانون لا يسري على دولتَي الدنمارك وإيرلندا. وتمّ استثناء العمّال في القطاع البحري، والعمّال المستقلّين من الرّخصة الموحدة. وفي 2023، تمّت مناقشة إجراءات تبسيط الاعتراف بشواهد الكفاءات والمهارات التي يُدلي بها العمال الأجانب والمقيمون بشكلٍ قانوني.
تواجه أوروبا تدفّقًا للمهاجرين وطالبي اللجوء بسبب الصراعات والنزاعات التي اندلعت في مناطق عدّة في العالم. وتُعتبر ألمانيا من الدول التي تلقّت أكبر عدد من طلبات اللجوء، حيث وصلت النّسبة إلى 31.4% من إجمالي طلبات اللجوء المقدّمة في دول الاتحاد الأوروبي سنة 2023. ولقد بلغ سنة 2023، عدد طالبي اللجوء في الاتحاد الأوروبي حوالى (1129640)، أي بزيادة 18% عن سنة 2022. كما تقدّم لاجئون من سوريا وأفغانستان وتركيا وفنزويلا وكولومبيا بطلب اللجوء، ووصلت النّسبة إلى 48% من إجمالي الطلبات المقدمة إلى الاتحاد الأوروبي، سنة 2023. ومع اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، استقبلت ألمانيا وبولونيا، أكبر عددٍ من اللاجئين من أوكرانيا. واستفاد الأوكرانيون منذ 4 مارس/آذار 2022، بالحماية المؤقتة من الاتحاد الأوروبي التي تمّ تفعيلها لمواجهة الوضع.
الهجرة داخل أفريقيا تؤثر في استقرار الدول الأفريقية وستساهم في إضافة ضغوط أخرى عليها
لقد وصل عدد اللاجئين على المستوى العالمي، إلى حوالى 122.6 مليونًا، ويُشكّل الأطفال نسبة 40% من عدد اللاجئين في العالم. ومن المُلاحظ أنّ الدول التي تستقبل أكبر عددٍ من اللاجئين، هي إيران وتركيا وكولومبيا وألمانيا وأوغندا. كما أنّ حوالى 71% من اللاجئين، يتمّ استقبالهم في دولٍ ذات مدخولٍ ضعيفٍ أو متوسّط.
ومن المُلاحظ كذلك أنّ الدول الأفريقية، تواجه هجرةً داخل أفريقيا، تؤثر في استقرارها وستساهم في إضافة ضغوطٍ أخرى عليها. وهكذا فإنّ الدول الأفريقية العشر الأوائل في استقبال المهاجرين هي كالتالي: في المرتبة الأولى، جنوب أفريقيا التي تستقبل حوالى 2860495 شخصًا أي حوالى 5% من ساكنة الدولة، وفي المرتبة الثانية ساحل العاج التي تستقبل حوالى 2564857 شخصًا أي حوالى 10% من ساكنة ساحل العاج، وتأتي أوغندا في المرتبة الثالثة باستقبالها حوالي 1720313 شخصًا أي حوالى 4% من الساكنة، ثم السودان في المرتبة الرابعة باستقبالها حوالى 1379147 شخصًا أي حوالى 3% من الساكنة، ونيجيريا في المرتبة الخامسة باستقبالها حوالى 1308568 شخصًا أي حوالى 1% من الساكنة، وتأتي إثيوبيا في المرتبة السادسة باستقبالها 1085517 شخصًا أي حوالى 1% من الساكنة، وتحتلّ كينيا المرتبة السابعة باستقبالها 1050147 شخصًا أي حوالى 2% من الساكنة، ثم الجمهورية الديموقراطية للكونغو في المرتبة الثامنة باستقبالها 952871 شخصًا أي حوالى 1% من الساكنة، وتأتي جنوب السودان في المرتبة التاسعة باستقبالها حوالى 882252 شخصًا أي حوالى 8% من الساكنة، وأخيرًا في المرتبة العاشرة تحلّ ليبيا التي استقبلت 826537 شخصًا أي حوالى 12% من الساكنة.
تبقى ليبيا على الرَّغم من الحرب منطقة عبور للمهاجرين الوافدين من الساحل باتجاه أوروبا
من المُلاحظ أنّ هناك أربع مناطق جاذبة للمهاجرين الأفارقة، داخل أفريقيا نفسها، ولقد تشكّلت عبر مراحل متعدّدة، فالمنطقة الأولى، تجذب مواطنين من بوركينا فاسو ومالي وغينيا ونيجيريا، حيث يتّجهون إلى مزارع القهوة والكاكاو في غانا وساحل العاج. أمّا المنطقة الثانية الجاذبة، فهي منطقة خليج غينيا، حول نيجيريا التي تستقبل أكبر عددٍ من المهاجرين في الغرب الأفريقي بعد ساحل العاج. وتشمل المنطقة الثالثة، السنغال وغامبيا، فبسبب الاستقرار السياسي النسبي للسنغال، فإنّه ينجذب إليها، مهاجرون من دول الجوار، من غينيا كوناكري وغينيا بيساو والرأس الأخضر وموريتانيا. أمّا المنطقة الرابعة، فهي شمال أفريقيا، وخصوصًا ليبيا والجزائر بعد اكتشاف البترول وظاهرة الجفاف التي عرفتها دول منطقة الساحل (1969 – 1973) ثم النزاعات. وهكذا التحق عددٌ من المهاجرين من النيجر ومالي والتشاد، للعمل بحقول البترول في ليبيا والجزائر. وإلى حدود 1995، فإنّ البيانات الإحصائية الصادرة عن ليبيا، أكدت أنّ 90% من المهاجرين كانوا من السودان والتشاد والنيجر إلى حدود 2011، وبعدها غادر حوالى 820000 مهاجر ليبيا بشكل مؤقت. لكن تبقى ليبيا، وعلى الرَّغم من الحرب، منطقة عبور للمهاجرين الوافدين من الساحل باتجاه أوروبا.
وتشير الدراسات إلى أنّ 97% و95% إلى 75% من المهاجرين من النيجر وبوركينا فاسو ومالي، يتوجّهون إلى بلدان أفريقية بالدرجة الأولى وخصوصًا ساحل العاج؛ بينما المهاجرون من نيجيريا فيهاجر 62% منهم إلى أوروبا أو أميركا.
وتحتاج أفريقيا إلى إقلاعٍ اقتصاديّ حقيقيّ واستقرارٍ سياسيّ قويّ، لإيقاف نزوح المهاجرين داخليًا وخارجيًا؛ وهذا أمرٌ مستبعدٌ حاليًا في ظل الصراع الجيوسياسي والجيواقتصادي وعدم وجود إرادة دولية، لتمكين القارة السمراء من النهوض.
جيوسياسية الهجرة تشكّل أنماطًا جديدة من السلوك وتداخل الهويات والصراع على البقاء والهيمنة
هناك بعدٌ آخر لـ"جيوسياسية الهجرة" ويكمن في جذب الطلبة للدراسة في الجامعات الدولية، ومن المُلاحظ أنّ الدول العشر الأوائل عالميًا في بعث الطلبة إلى الخارج هي كالتالي: أولًا، الصين التي تبعث حوالى 1005916 من الطلاب، ثانيًا، الهند (508174)، ثالثًا، فيتنام (137022)، رابعًا، ألمانيا (126359)، خامسًا، أوزبكستان (109945)، سادسًا (105790)، سابعًا، الولايات المتحدة الأميركية (102691)، ثامنًا، سوريا (99050)، تاسعًا، كازاخستان (91860)، عاشرًا وأخيرًا، كوريا الجنوبية التي تبعث حوالى 90196 من الطلاب.
عمومًا، فإنّ جيوسياسية الهجرة لها أبعاد متعدّدة وتعكس إلى حدٍّ كبيرٍ مستويات التفاعل بين الدول والحركات العابرة للحدود وتشكّل أنماطًا جديدةً من السلوك وتداخل الهويات والصراع على البقاء والهيمنة، ذلك أنّ الهجرة المتواصلة لبلدانٍ معيّنةٍ تعاني من الشيخوخة وانخفاض معدّل الخصوبة وانحدار منحنى الساكنة، من شأنه إثارة مخاوف من مستقبلٍ تتغيّر فيه التركيبة السكانية وهويتها، ممّا يُغذّي الشعبوية والحركات الإيديولوجية المتطرّفة الرّافضة للآخر أو الأجنبي، وبالتالي اتّساع نطاق العنف والكراهية. هناك حاجة ملحّة لصياغة سياسات هجرة متوافقة مع منظور جيوسياسية التعارف الإنساني وليس جيوسياسية الخوف والتصادم.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")