يمكن رصد بوادر التجربة الراهنة بعد هزيمة 1967 وإبرام مصر معاهدة الصلح مع إسرائيل في سنة 1979، وبما أنّ التاريخ يتأثّر بالتجارب الزمنية المعبّرة عنه، حيث صارت هي مقياس التعبير عن التمييز الفاصل بين العتبات التاريخية، لهذا رسمت هذه المعاهدة أولى تجليات الانتقال من عتبة التجربة التحررية وما رُصد لها من حلول شمولية إلى التجربة المابعد تحرّرية التي تحاول إعادة بناء مقوّمات القومية العربية انطلاقًا من تقوية البناء الوطني، انكباب الاهتمام حول مسألة الحدود الجغرافية والاستقلال الوطني، ثم فيما بعد الأوضاع الثقافية والسياسية وكذا السكانية في التجربة المابعد تحرّرية.
ويمكن القول إذن إنّ هزيمة 1967 لم تكن فشلًا للقومية العربية، بل كانت إيذانًا بعدم ملاءمة الصياغة المفهومية السابقة للعتبة التاريخية لبزوغ توجّه مختلف يعبّر عن تغيّر الأوضاع، ومن هنا نقرأ التعامل مع الأزمة السياسية التي واكبت تلك الهزيمة، بمجموعة من الشعارات التجييشية والحماسية، والتي ترتفع عن واقع الأمر بآمال وطموح لم يُهيّأ لها ولم توافق الواقع السياسي ولا الاقتصادي لمعظم الدول العربية آنذاك.
تحديد المطلب الوطني كأولوية استعجالية، ساهم في تأجيل الطموح القومي إلى حين
ما جرى حينها، وهذه جزئية دقيقة وتتطلّب الكثير من التأمّل، أنّ هذه الفجوة ما بين الواقع والمأمول تمّ تعويضها بآمال وطنية.
أفرز هذا الوضع عدة نقاط نذكر منها ما يلي:
- الآمال المعقودة على القومية العربية لا ترتبط بالإرادة السياسية للدول العربية وحسب، بل ترتبط بالسياق السياسي الاقتصادي العالمي أيضًا، مما يستوجب العمل على إعادة بناء البيت الوطني، لهذا تمّ تحديد المطلب الوطني كأولوية استعجالية، مما ساهم في تأجيل الطموح القومي إلى حين.
- ثمة بون شاسع بين الشعارات السياسية المعلنة وواقع الحال، وواضح أنّ الأنظمة الثورية العربية في التجربة التحرّرية كان لها نصيب في ترسيخ انتظارات لا تناسب واقع الدول العربية مما خلق فجوة صعب ردمها منذ عقود.
- واضح أيضًا أنّ التاريخ الاجتماعي بحاجة للتاريخ المفاهيمي، وذلك لعدة اعتبارات أهمّها التحقّق من التجربة المخزنة أو الثاوية خلف الآليات اللغوية. ولأجل هذا فإنّ التاريخ المفاهيمي بحاجة لنتائج التاريخ الاجتماعي كذلك، في إطار امكانية رسم المسافة غير قابلة للتجاوز، ونقصد بذلك المسافة بين ما يحمله الواقع المختلف لـ"مفهوم القومية ضمن التجارب السابقة" والشهادات اللغوية الباقية عن هذه القومية، لذلك فإنّ كل استعمال راهن لكلمة قومية ينتج بشكل قبلي عن أشكال لغوية تؤطر معناه وكذا فهمه بشكل مسبق، مما يسهل، في الفهم البسيط، تغليب كفة الواقع المختفي ضمن الواقع قيد التشكّل.
إنطلاقًا مما سبق أعلاه، وما توقفنا عنده في الجزءين السابقين من هذه المقالة، نجزم أنّ أزمة القومية العربية بعد التجربة التحرّرية تعزى بالدرجة الأولى لحدودها السياقية، انقضاء ما رُسِمَ له وإلحاحية إيجاد منظور مغاير لما تمّ انقضاؤه. إذ السؤال الراهن عن جدوى القومية وفعاليتها تجاوز قدرات الجواب المقدّم سلفًا، مما يتطلّب جوابًا آخر يفي بالمطلب القومي.
"الهمّ القومي" يفرض عملًا وكفاحًا يتجاوز منطق التعاطف السطحي
ليس هذا وحسب، فقد اتّضح أنّ المسألة الفلسطينية صارت مؤشرًا مؤثرًا بشكل لافت في قراءة مسار فعالية "القومية العربية"، لأننا نربط فشل القومية العربية باستمرار بالإشكال الفلسطيني، ذاك الجزء المستلب من الكلّ الموعود بتحقيق وحدة لا يطالها نقصان، ومن هنا ظلّ الإشكال الفلسطيني مجالًا لإعادة توظيفه والتخلي عنه، وكذا ضغطًا على حاضر الدول العربية، إنه بمثابة الإحراج القومي المزمن، مما سهّل استحضار القضية الفلسطينية ضمن التجربة الراهنة "كحسّ قومي" وليس "كهمّ قومي"، لأننا صرنا أمام جزء انفلت من الكلّ.
وجب التدقيق هنا في اختلاف الأمر بخصوص ثنائية "الحسّ القومي" و"الهمّ القومي": "الحسّ القومي" يتعلّق بمعطى تاريخي متّفق عليه والتنكّر له من باب اللامعقول، لأنه يُؤسّس هويتنا، فهو موجود بالقوة لكن ينقصه بالمقابل الوجود بالفعل؛ أما "الهمّ القومي" فيرتبط بوجود ثقل وجب إزاحته مما يفرض عملًا وكفاحًا يتجاوز منطق التعاطف السطحي الذي قد يثيره المعطى الأول، وهو ما تلخصه كلمات لطالما استعانت بها الأنطمة السياسية من قبيل "الشجب"، "التنديد"، "الرفض"، "الإدانة"، فالهمّ القومي ترجمته التجربة التحرّرية التي تم تناولها في المقال السابق، أما التجربة الراهنة فتعكس المعطى الأول.
ولهذا نعتقد أنه لكي تصبح للقومية العربية فعالية واقعية، يجب أن تعكس همًّا ضمن مختلف الوطنيات العربية.
(خاص "عروبة 22")