وجهات نظر

التاريخ المفاهيمي.. القومية العربية نموذجاً (2)

بعد أن قدّمنا المقال الأول حول الأرضية النظرية الخاصة بمبحث التاريخ المفاهيمي، سنتناول في هذا المقال أساس هذه المقاربة التي تُبنى على نقطتين...

التاريخ المفاهيمي.. القومية العربية نموذجاً  (2)

من ناحية أولى التجربة التاريخية تُترجم بشكل دائم ضمن إطار المجال اللغوي المعبّر عنها بواسطة مفاهيم موجّهة أو مفاهيم فاعلة؛ ومن جهة ثانية المعرفة التاريخية التي تبقى رافدًا أيضًا  للوجود وكذا للوظيفة اللغوية لهذه المفاهيم ذاتها، إذ صار المفهوم يملك زمنية في قلب المشروع الجماعي ككل، فزمنية المفاهيم لم تمسّ فقط المفاهيم التاريخية، وإنما المفاهيم السوسيواجتماعية أيضًا لأنها مدفوعة بإرادة إحداث التغيير الزمني، هذا التاريخ المتحكّم فيه من طرف الإنسان يقوم كذلك على التعليل الذاتي للحاضر، عبر المستقبل الذي يُقدم في مقابل الماضي الذي يُقارن به، ففي الغالب الحاضر السياسي يبني تصوّراته في إطار منظور توجهي يؤطّر للهوية الجماعية الخاصة به، انطلاقًا من محو أو تهميش تصوّرات سابقة لا توافق خطاطاته العامة، وهو ما يتوافق مع مفهوم "القومية".

يُركّز التاريخ المفاهيمي على خطاب الفعل... وفعالية توظيف الحسّ القومي اقتصاديًا وسياسيًا

وبما أنّ الهدف هو إعادة قراءة الماضي بشكل نقدي وملامسة انتظارات الحاضر، لتحقيق نوع من التأمّل أو التفكر حول طريقة قراءتنا وكتابتنا لتاريخنا، سنحصر التناول من خلال تجربتين تاريختين تم اختيارهما لسببين:

 ـ يُركّز التاريخ المفاهيمي على خطاب الفعل، ومنه ارتأينا رصد التجارب التاريخية التي تؤسّس لذلك، أي التجربة التحرّرية، أي تجربة الكلّ الشمولي، ثم التجربة الراهنة، أي فعالية توظيف الحسّ القومي اقتصاديًا وسياسيًا مع استحضار الأرضية الوطنية، أي الجزء المستلب من الكلّ، والإحالة هنا على فلسطين.

التجربة القومية القائمة على طموح الكلّ في شكله الفضفاض إبان الحركات التحرّرية لا زالت تتبادر إلى الذهن راهنًا، وهو ما يستوجب الوقوف عنده.

ــ التجربة التحرّرية: لقد كان الهدف المعلن من العمل القومي هو استقلال العرب وتحقيق وحدتهم، تحقيق الكلّ الشموليّ وعدم التفريط في أيّ جزء من الخريطة العربية، الممتدة من المحيط إلى الخليج.  تعكس التجربة التاريخية لخطاب الفعل القومي خلال ثلاثينيات القرن العشرين إلى حدود تحقيق الاستقلال مسار كفاح لتحرّر جماعي، لقد عاشت هذه التجربة نوعًا من الإحساس بالزمن المثقل بضرورة التخلّص من حمل المستعمر، وأنّ هذا الحمل هو بمثابة "همّ قومي" يمسّ كل الأقطار العربية المستعمرة.

فشل القومية العربية يعود لضبابية الأسُس والمنطلقات وليس للطموح القومي نفسه

تحضر هنا الكثافة الدلالية لمصطلح "هَم" التي تحيل على ضرورة الفعل لإزاحته جانبًا، وفي إطار هذا التمييز يتمّ رسم تجربة تاريخية مختلفة تعكسها بنية المفهوم الذي انتقل من عملية التنظير إلى طور الفعل، واستحضار "الهَمّ القومي" عكسته بقوة الخطابات السياسية والاجتماعية لتلك الفترة، مما طمس الأرضية التعريفية لجلّ المفاهيم المؤسّسة لطبيعة هذه الوحدة، إذ إنّ عملية تعجيل واستنفار وكذا تجييش الجهود لتحقيق وحدة عربية تمّت نظريًا على أرضية ضبابية مبهمة لأغلب المفاهيم المؤسّسة لنمط أو طبيعة التوجّه السياسي، في الأقطار العربية، مما سهّل صبغ القومية بطابع تحزبي، فالتحرّر الجماعي الكلّي من الاستعمار بهدف التخلّص من الأجنبي الغير عربي خارج بقاع الجغرافيا العربية كان يوازي أو يرادف الحرية والاستقلال بشكل عام، مما أفرز غياب دلالة مفهومية للحريات الفردية، أو مفهوم الدولة، الديموقراطية... التعددية/ التشاركية السياسية، ومن هنا ظلّت المفاهيم المؤسسة لبنية الدول العربية غامضة ومبهمة تغلب عليها دلالات وجدانية عاطفية تعطي أولوية لمواجهة الآخر وتعطّل التعاطي مع الشأن الداخلي إلى حين.

إن القول بفشل القومية العربية في تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية هي قراءة ما بعد تحرّرية تقفز عن زمنية منطلقات التجربة ذاتها، لأنّ الوحدة تعني بالأساس التسليم بوجود التعدد لتحقيق الوحدة، في حين أنّ خطابات الفعل القومي لم تسع لتحقيق وحدة سياسية بل سعت إلى تصدير التجارب وتكراراها على المنوال نفسه، أي العمل على تحزب القومية وإفقادها الحسّ التعدّدي الضامن لوحدتها. لنقل إن فشل القومية العربية يعود لضبابية الأسُس والمنطلقات وليس للطموح القومي نفسه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن