تقدير موقف

سوريا تنتظر "المشروع الثاني"

بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات عن سوريا وتبعه قرار أوروبي برفع العقوبات، باتت دمشق أمام مرحلةٍ جديدةٍ ستواجه فيها تحدّياتٍ مختلفةً عن تلك التي عرفتها طوال الأشهر الستة الماضية لأنّ محاسبة الحُكْم الجديد بعد رفع العقوبات لن يكون كما جرى قبله، والصعوبات الكبيرة التي تواجهها دمشق هي التي دفعت وزير الخارجية الأميركية إلى القول إنّ السلطة الجديدة قد تكون مهددةً بالسقوط خلال أسابيع إذا لم تحصل على الدعم الدولي الكافي.

سوريا تنتظر

الحقيقة أنّ سوريا الجديدة عرفت مشروعَيْن: الأول هو مشروع الثورة منذ مارس/آذار 2011 وحتى سقوط النظام، والثاني مشروع بناء سوريا الجديدة الذي يمكن التأريخ له منذ تاريخ رفع العقوبات.

والحقيقة أنّ وجود نظام مستبدّ وطائفي هو الأبشع في تاريخ سوريا الحديثة قضى على كل البدائل المدنيّة وقمَع المُحاولات السلمية للإصلاح، فكان حتميًّا أنّ مَن سيُسقطه هو فصيل مُسلّح عقائدي حصل على دعمٍ إقليميّ، وبخاصة تركيّ، واستغلّ اللحظة المناسبة التي ضعف فيها حلفاء النظام من إيران إلى "حزب الله" وشنّ هجومه على قوات النظام التي انهارت في عشرة أيام وفرّ بشار الأسد هاربًا وترك "أزلامه" يلقون مصيرهم بعد سيطرة الفصائل المُسلّحة على معظم الأراضي السورية.

الوضع في سوريا على عيوبه وتحدّياته أفضل حتى الآن مما جرى في أكثر من ساحة تغيير عربية

إنّ المشروع المقابِل لبشار الأسد كان من المستحيل أن يخرج عن مشروع أحمد الشّرع و"هيئة تحرير الشام" والفصائل المُسلّحة المنضوية تحت قيادته، خصوصًا بعد أن رفض الأسد كلّ الحلول التي طرحت بدائل مدنيّةً آمنةً لنظامه، من فاروق الشّرع وزير خارجية سوريا الأسبق الذي طُرح كبديل في 2014 حتى محاولات إيجاد خروج آمن له من السلطة يحقن دماء السوريين ويحفظ مقدّرات البلاد.

لقد نجح النظام الجديد في مهمّته أو مشروعه الأوّل الذي يتمثّل في إسقاط بشار الأسد ولم ينجرّ على مستوى التوجّه العام إلى بحور الدماء الانتقامية (حتى لو حدثت جرائم في الساحل السوري الشهر الماضي) كما جرى في العراق عقب الغزو الأميركي في 2003 والذي أدّى إلى مئات الآلاف من القتلى وحربٍ مذهبيةٍ وسياسيةٍ و"دواعش" يسيطرون على مدن، فبالقطع الوضع في سوريا على عيوبه وتحدّياته أفضل حتى الآن مما جرى في أكثر من ساحة تغييرٍ عربيةٍ على الأقل على مستوى الخطاب الرّسمي للنظام الجديد الذي غابت عنه مفردات الاجتثاث والانتقام والمراهَقة الثورية واستفزاز القوى الإقليمية بما فيها الخصوم والأعداء، والتركيز على بناء الداخل بعيدًا عن المحاصَصَة الطائفية كما جرى في العراق وتدخّلات المبعوثين الأمميين كما جرى في ليبيا والسودان.

والحقيقة أنّ الحُكم الجديد في سوريا قد يكون الطّبعة الأفضل من الفصائل الإسلامية المُسلّحة مقارنةً بآخرين من كل التوجّهات والمذاهب، ولكن هذا لا يكفي لضمان نجاحه ومواجهة التحدّيات التي تواجه سوريا إقليميًا وداخليًا.

كما سيفتح رفع العقوبات عن سوريا باب الدعم للنظام الجديد سيفتح أيضًا باب المحاسبة

إنّ بنية المشروع الحالي تحمل "النّقيض" المطلوب لإسقاط نظام "آل الأسد" فقد ضمِن حاضنةً شعبيةً من الأغلبية السنّية وقطاعاتٍ واسعةٍ من الطوائف الأخرى لإنجاز مُهمّة إسقاط النظام، ولكنه بالقطع لن يحصل على الحاضنة نفسها فيما يتعلق بتقييم أدائه في حُكم البلاد.

والحقيقة أنّ رفع العقوبات عن سوريا سيجعل هناك عيونًا أكثر على الداخل السوري، وكما سيفتح باب الدعم للنظام الجديد سيفتح أيضًا باب المحاسبة، وسيصبح التحدّي الأكبر الذي سيواجه مشروع سوريا "الثاني" أو الجديد هو بناء مؤسّسات دولةٍ مدنيةٍ تعمل ولو بحدٍّ معقولٍ من الكفاءة.

ما زال هناك مشكلات هيكلية في بنية المؤسّسات الحاكمة التي تُعدّ امتدادًا لفكر الفصائل المُسلّحة، فقد بدت "هيئة" هذه القوات وبدا مظهرها الخارجي وممارسات بعض أطرافها في صورة تعكس أفكارًا متشدّدةً وإقصائيةً بحقّ أبناء الطوائف الأخرى، كما أنّ الجملة التي تُردّد كثيرًا في سوريا حول إحالة المتورطين في أي جرائم إلى القضاء لم نعرف معها هل هناك قضاء مدني أصلًا؟ وهل هناك خطط لبناء مِرفق مهني ومستقل أو شبه مستقل للعدالة؟ وهل معظم عناصر الفصائل المُسلّحة وقواعدها تؤمن بخطاب أحمد الشّرع المنفتح والداعي لاحترام الحرّيات الشخصية؟.

من شروط الحصول على الشرعية السياسية أن تصبح قناعة الحُكم الجديد بإعادة بناء المؤسسات مقنعةً للجميع

إنّ رفع العقوبات عن سوريا بقدر ما مثّل خطوةً إيجابيةً وفرصة، فإنّه في الوقت نفسِه سيجعل المتابعة لما يجري أكثر دقةً وحسب الأهواء الخارجية، إذ من شروط الحصول على الشرعية السياسية المطلوبة أن تصبح قناعة الحُكم الجديد بإعادة بناء المؤسسات وتأهيل عناصر وزارة الدفاع والأمن العام وغيرهما مقنعةً للجميع.

إنّ إنجاز هذا المشروع الثاني في سوريا هو عتبة النجاح، وفي حال الفشل أو التلكؤ في إتمام هذه المهمّة، فسيكون البديل من خارج المنظومة الحالية وبحساباتٍ دوليةٍ وإقليميةٍ ستستهدف وحدة سوريا نفسِها وليس فقط مَن يحكمون فيها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن