قمّة بغداد التي همس الفراغ فيها بنهاية مرحلة، لم تكن مجرّد قمّةٍ باهتةٍ أخرى، بل جاءت ـ بكلّ ما فيها من غيابٍ فعليّ، وغيبةٍ رمزية ـ كأنّها الإعلان النهائي عن موت النّظام العربي القديم، بصمتٍ لا يليق بعِظَم الفقد.
لم يصدر عن القمّة إعلانٌ سياسيّ يواكب اللحظة التاريخية الفاصلة، ولا تمخّضت مُخرجاتها عن رؤيةٍ استراتيجيةٍ جديدةٍ، اقتصرت فقط على مجموعة قراراتٍ روتينية، تمّت تلاوتُها بإضافاتٍ هامشيةٍ لا قيمة لها، كأنّها تكرارٌ لمسرحيةٍ مُملةٍ تُعرض بلا نهاية.
لم تكن قمّة بغداد مجرّد اجتماعٍ رتيبٍ آخر؛ بل جاءت كأنّها إعلان ضمني عن نهاية نظامٍ عربيّ تآكلت قوائمه، وشهد انحسارًا مُريعًا في القدرة على التأثير والفعل. بدا كأنّ النّظام خرج من صفحات التاريخ، ضائعًا في جغرافيا عربيةٍ مستباحة، تتقاذفها مشاريع إقليمية ودولية على حساب إرادته وهويته، والأخطر على حساب وجوده.
لم يكن بيان القمّة نصًّا سياسيًا بقدر ما كان مرآةً تعكس فراغًا استراتيجيًا عربيًا شاملًا
جاء إعلان بغداد أقرب إلى بيانٍ تلتقي فيه الحروف وتغيب عنه الإرادات، هكذا كشفت الجامعة العربية مرةً أخرى عن أنّها مؤسّسة تبحث عن وظيفةٍ لم تعُد تملك أدواتها، وقمّة بلا أثرٍ يُذكر في زمنٍ تتغيَّر فيه الخرائط تحت سمع وبصر قمم العرب التي أدمنت الاكتفاء بالكلام، والانكفاء عن الفعل.
كان الغياب هو أكثر الحضور، حتّى من حضَر، بعضهم انسحب، وبعضهم جاء ليقرأ نصًّا لا ليصنع سياسة، لم تستطع القمّة إخفاء الحقيقة، ولا تجميل الواقع. تغيّبت الأغلبية من القادة العرب، بعضهم عن عمد، وبعضهم بتثاقل، وبعضهم الآخر حضر بجسدٍ بلا قرار، وكأنّ الاجتماع لا يعنيهم، أو كأنّ الجامعة العربية لم تعد تصلح حتّى كمنصةٍ لتبادُل العناق.
لم يكن غياب القادة مجرّد تفصيلٍ بروتوكوليّ، بل جاء "تصويتًا بالصّمت" على ما تبقّى من النظام العربي الرسمي، كما لو كانت جنازة صامتة، من دون تأبين وبلا وريث، بدت قاعة القمّة ـ وسط هذا الغياب ـ بمثابة نعشٍ رمزيّ لنظامٍ عربي قاوم الاعتراف بموته منذ تسعينيّات القرن الماضي، لكنّه في النهاية لفظ أنفاسه الأخيرة على الهواء مباشرة.
ما جرى في بغداد يُشبه كثيرًا المشاهد الختامية في حياة المؤسّسات التي فقدت قدرتها على التطوّر والتجديد، حين يَقلّ الحضور، ويبهت الخطاب، وتفقد المؤسسة رمزيّتها، وتغيب أغلبية أعضائها لا لأنهم مشغولون، بل لأنّ الكيان الذي يُدعون إليه لم يعد يعني شيئًا في حسابات الفعل، ولا يُضيف شيئًا في معادلات القوة.
هذه الحقيقة حملها البيان الختامي الفارغ من أي مضمونٍ حقيقيّ، ليس فيه خريطة طريق، ولا أثر لنيّة فعل، لا تلمَح أثرًا لمعركة وجود، ولا تسمع صدًى لانفجارات الخرائط من حولنا، بل تقرأ سردًا نمطيًّا رتيبًا، لا يملك حرارة الواقع ولا تُحرّكه مرارة الخسائر، تكرارٌ لعباراتٍ محفوظةٍ، وتوازنٌ مُخادعٌ بين تناقضات، وتجنّبٌ حريصٌ لأيّ التزام حقيقي.
حتّى فلسطين ـ بكلّ مآسيها ومواجعها الحاضرة ـ ذُكرت كواجبٍ لغويّ، لا كقضيةٍ مركزية، تحدّث عنها البيان كما عشرات البيانات قبلَه، بالمفردات نفسها والحياد الآمن نفسه، دعا إلى "حلّ الدولتَيْن" و"مرجعية الشرعية الدولية"، من دون أن يجرؤ على الاقتراب من جوْهر الكارثة: أنّ المشروع الصهيوني بات يقترب من إعلان إسرائيل الكبرى، بينما العرب يقتربون من إعلان بيانٍ جديد.
تحوّل الفضاء العربي إلى مسرحٍ مفتوحٍ للتدخّل
لم يكن بيان القمّة نصًّا سياسيًا بقدر ما كان مرآةً تعكس فراغًا استراتيجيًا عربيًا شاملًا، لا رؤية للمنطقة، لا تصوّر لموقع العرب في الصراع الدولي المحتدم، لا حديث عن النظام العالمي المتغيّر، ولا حتّى موقفًا جادًّا من التدخل التركي أو الإيراني أو الإسرائيلي في جوْف العواصم العربية.
لم يكن البيان صامتًا، لكنّه لم يقل شيئًا، بدا كوثيقة براءة ذمّة تتهرّب من أي فعل مواجهة مع الواقع، وكلّ التوصيات هي بنودٌ لحفظ ماء وجه مؤسسةٍ تفقد شرعيتها في كلّ دورةٍ جديدة.
كانت الجامعة العربية ـ على كل ما فيها من عطبٍ وتناقض ـ تُعبّر على الأقل عن وَهْم القرار المشترك، حتّى هذا الوهم تلاشى، لم تعُد الجامعة مرجعية، وتحوّلت "القمم" إلى منصةٍ لتأكيد ما تُقرّره العواصم القوية، أو ما تسمح به العواصم الأكثر نفوذًا خارج السياق العربي.
تفكّك القرار العربي على نحوٍ لم يعد يُتيح حتّى تنسيقًا شكليًا، وتحوّل الفضاء العربي إلى مسرحٍ مفتوحٍ للتدخّل، لا مجالًا لصياغة موقفٍ مستقلٍ أو موحّدٍ. واللّافت في هذا المشهد أنّ العواصم الكبرى في الإقليم لم تعد تنتظر القرار العربي، لأنّها أدركت أن لا قرار يجمع ولا سياسة توحّد.
تراجعت اللغة السياسية الجامعة، كلّ دولة تتناول مفهوم "الأمن القومي" وفق رؤيتها الخاصة، وتتحدّث عن "العلاقات الدولية" بمنطق مصالحها الضيّقة، وباتت "قضية العرب المركزية" تُطرح شكليًا في بيانات وتصريحات وزراء الخارجية.
السؤال الأهم الآن: هل حان وقت التأسيس من جديد؟
الأمم الحيّة لا تستسلم للعجز كقدرٍ محتوم، ولا تكتفي بالبكاء على الأطلال، بل تمتلك الشجاعة لمواجهة واقعها.
ما تحتاجه الأمّة العربية اليوم ليس مؤتمرًا جديدًا ولا بيانًا آخر، بل عقلًا عربيًا مُتجدّدًا يُدرك أنّ ما ضاع لم يكن مجرّد نفوذٍ سياسيّ، بل كان مشروعًا حضاريًا لم يَكتمل، ويَعي أنّ الجامعة العربية ليست سبب المشكلة، لكنّها باتت تعكس أزمةً أعمق: أزمة الإرادة، والقرار، والمعنى.
ليس المطلوب أن نهدم الجامعة، بل أن نستعيد الفكرة التي قامت عليها قبل أن تتكلّس: فكرة أنّ للعرب دورًا في هذا العالم، لا مجرّد ردّ فعل، وأنّ وحدتهم ليست شعارًا في بيان، بل ضرورة لوجودهم ذاته.
أوّل الطريق يبدأ بالاعتراف بأنّ ما نعيشه ليس مجرّد "مرحلةٍ انتقالية"، بل حالة فراغ استراتيجي كامل، وأنّ ملء هذا الفراغ لا يتحقّق عبر الاجتماعات والمداولات، بل يتطلّب ـ قبل ذلك ـ إرادة فعلٍ حقيقية، وقدرةً على استعادة زمام المبادرة، والشّروع في صياغة مشروعٍ واضح المعالم.
نحن أمام تحوّل جذري في المشهد العربي؛ دخلنا مرحلة اللّانظام، حيث تُهَيْمن الفوضى فيّ ظل غياب القواعد الواضحة والرؤية المشتركة. ولم يعُد الأمر مجرّد إخفاق مؤسّسي، بل تحوّل إلى غيابٍ فادحٍ للإرادة الجماعية وانكماشٍ مُتسارعٍ لدور الدول المركزية، في مشهدٍ يبدو وكأنه إقصاء مُمنهج لأي إمكانية لقيام نظام عربي جامع.
المطلوب برنامج واقعي يُعيد ترتيب الأولويّات على أساس المصالح الكبرى ويتمّسك بحقّ العرب في امتلاك أدوات القرار
المطلوب اليوم ليس محاولة إنعاش النظام العربي القديم، بل صياغة برنامج واقعي يُعيد ترتيب الأولويّات على أساس المصالح الكبرى، بعيدًا عن المزايدات اللّفظية. برنامج يستوعب التغيّرات الحادثة، ويتمّسك بحقّ العرب في الفعل، وفي امتلاك أدوات القرار، وفي صيانة قضيّتهم المركزية من أن تتحوّل إلى مجرّد ورقة تفاوض في تفاهمات الآخرين ومقايضاتهم.
العرب مُقبلون على مرحلةٍ تستدعي تحالف العقلاء، أولئك الذين لم تستهلكهم الحسابات الضيّقة، تحالفًا يُشكّل نواةً صلبةً لتيارٍ عربيّ جديد، يُعيد للوجود العربي معناه، ويرفع الصوت عاليًا بثقة: "نحن هنا"، قبل أن يأتي يومٌ يُكتب على الهوية العربية، بمرارة الغياب: "كانوا هنا".
(خاص "عروبة 22")