كانت البداية مع استقبال الرئيس الفرنسي ماكرون لأحمد الشرع في قصر الإليزيه كأول لقاء بهذا المستوى مع زعيم دولة غربية لديها عضوية دائمة في مجلس الأمن. ثم "فاجأنا" ترامب بلقائه في الرياض بحضور ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ومشاركة عن بعد من الرئيس التركي أردوغان. ولم تكن تصريحات السفير الأمريكي السابق في سوريا روبرت فورد بشأن "تأهيل الجولاني" منذ سنوات وما تلا ذلك من الكشف عن دور بريطانيا الصامت بواسطة جوناثان بأول محض مصادفة.
إن إخراج اجتماع الرياض بالشكل الذي تم فيه هو من مستلزمات أسلوب الصدمة الذي يحبه ترامب، ولكن لا يخفى على أحد أنه دشن مرحلة جديدة في مسار التحول السوري الكبير باحتضان أمريكي فرنسي بريطاني، ورعاية سعودية ـ تركية مباشرة. تم تتويج هذا المسار بسرعة من خلال تعليق العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا لستة أشهر قابلة للتمديد، ليظهر أن هذا الاحتضان الغربي ـ الإقليمي ـ العربي للسلطة الجديدة ليس شيكاً على بياض، بل هو فرصة لها بإطار زمني واضح وشروط تكرر ذكرها مراراً منذ سقوط نظام الأسد على مسامع كل من الشرع والشيباني في جميع المناسبات الدبلوماسية إضافة إلى وسائل الإعلام، يمكن تلخيصها بنقطتين أساسيتين هما التحوّل إلى دولة والتموضع في الاصطفاف الغربي بعيداً عن محور موسكو ـ بكين ـ طهران.
أما ما عدا ذلك فيترك أمره للسوريين أنفسهم ليختاروا النموذج الذي يناسبهم لمستقبل كيانهم وعيشهم. حتى العلاقة مع إسرائيل لن تفرض على سوريا كما قد يفهم من مطالبة ترامب بانضمامها إلى اتفاقات أبراهام. أما في الشؤون الداخلية فلن يضغط أحد على سلطة دمشق لتمضي نحو نموذج ديمقراطي في الحكم أو علمانية الدولة أو النظام الفيدرالي أو غيرها من مطالب قطاعات من السوريين. غير أن التحوّل من جماعة مسلحة إلى دولة يفترض بداهةً أن تحتضن هذه كل السوريين بجماعاتهم الأهلية وثقافاتهم المتنوعة وطبقاتهم الاجتماعية وتعدديتهم السياسية والإيديولوجية بما يُشعر السوريين أن الدولة هي دولتهم مهما تغيرت السلطة الحاكمة، وأن هذا التغيير ممكن بإرادة أغلبية السوريين، بعد انتهاء حقبة الأبد الأسدية المعادية للتغيير، وأن يضمن النظام السياسي المفترض إقامته وسائل سلمية للتغيير من غير حاجة إلى انفجارات اجتماعية جديدة للتخلص من سلطات قد تميل إلى تأبيد نفسها مجدداً.
الدول الغربية، ومثلها دول الجوار العربي والإقليمي، تريد من السلطة في سوريا تحقيق الاستقرار ليتوقف هذا البلد عن الاحتراب الداخلي وتصدير اللاجئين والإرهاب والكبتاغون ويتحول إلى وجهة مرغوبة للاستثمار. لا مشكلة لديهم مع سلطة دكتاتورية تحقق هذه الأهداف. فلم تكن مشكلتهم مع النظام المخلوع أنه دمر البشر والحجر طوال ما يقارب عقداً ونصف من السنوات، بل في أنه فشل في استثمار جميع الفرص التي أتيحت له لاستعادة الاستقرار الذي كان متوفراً قبل العام 2011، بل عمل بكل ما يملك من إمكانات ومع حلفائه الروس والإيرانيين وحزب الله على تصدير اللاجئين والإرهاب والمخدرات خارج الحدود.
منذ الأيام الأولى بعد سقوط النظام واستقرار الشرع في قصر الشعب قال في إحدى تصريحاته لوسائل الإعلام الأجنبية إنه ينبغي الانتقال من عقلية الفصائل إلى عقلية الدولة. وتشير مسيرته الطويلة من التحولات إلى طموح سلطوي لديه لا يمكن تحقيقه في قيادة الدولة السورية بغير هذا الانتقال. لكن الأشهر الستة التي تلت ذلك أظهرت محدودية قدرته على تحقيق هذا الهدف، وأساساً بسبب محدودية سيطرته على الفصائل التي قامت تحت قيادته بالاستيلاء على السلطة في مناطق سيطرة النظام المخلوع، إضافة إلى تردده في المضي قدماً في الاتفاق الذي وقعه مع قوات سوريا الديمقراطية، وفشله في تكريس تفاهم مستقر مع محافظة السويداء، ومحاسبة مرتكبي المجازر في منطقة الساحل وبعض مناطق الجماعة الدرزية. وما من داع لتكرار أن الخطوات التأسيسية التي قام بها لم ترتق إلى مستوى تطلعات السوريين في تأسيس دولة تستحق هذا الاسم. فكل هذا سبق وتم تسليط الضوء عليه أولاً بأول.
الفرصة الجديدة التي يتيحها تعليق العقوبات ستمنح السلطة وسائل لتدارك ما فاتها ووقتاً محدوداً للقيام بذلك. تبقى العقبة الرئيسية على هذا الطريق هي التخلص التام من الحالة الفصائلية ونشاط تلك الفصائل الهدام، سواء بالإقناع أو بقوة الدولة المدعومة بتوافق دولي حاضن. حتى إسرائيل التي تختلف رؤيتها لسوريا التي تريدها (دولة ضعيفة مفككة) عما تريده الدول الحاضنة، من الواضح أنها فرملت تدخلاتها الفظة في الآونة الأخيرة، بطلب أمريكي مباشر على الأرجح. فقد لاحظنا بالتوازي مع انفتاح ترامب على السلطة في دمشق (ومغازلته لأردوغان) فتوراً منه تجاه نتنياهو، إضافة إلى ارتفاع منسوب الاستياء الغربي من مواصلة إسرائيل حربها الإبادية على غزة والضفة الغربية.
لا نعرف هل ستتمكن المجموعة الحاكمة من السيطرة على فوضى الفصائل ونزع سلاحها وحلها كما تقرر أكثر من مرة. فمن شأن نجاح هذه الخطوة الأولى الأساسية أن يفتح الطريق أمام الخطوات الأخرى التي لا بد منها لتأسيس الدولة الجديدة المأمولة.
(القدس العربي)