وجهات نظر

فكرة "المجتمع المدني" في العالم العربي... بين النظرية والممارسة

ربما يكون من المستحيل تعريف وتسويق فكرة المجتمع المدني العربي، حيث يقاتل الكلّ فيه الكلّ. فيفقد المصطلح نظريته وآلياته وراهنيته، على الرغم من وجود تقدّم في النظرية في السنوات الأخيرة على ضوء التطورات السياسية والإقتصادية في مناطق عديدة، ولجهة التأثير المتنامي للمجتمعات المدنية والمنظمات غير الحكومية.

فكرة

لطالما اعتُبر المجتمع المدني مصدرًا للتأثير الإيجابي. لكن لا بدّ من التريّث في حسم وجوده عربيًا، لا سيما في مجال صنع القرار السياسي الديمقراطي وفي مضمونه، إدارة الناس وتدبير شؤونهم، وتقوية أدوار المجتمع المفتوح والتنويع وقبول الآخر، والتحرّر من أصفاد الهوياتيّة المغلقة.

يشير المصطلح في تعريفاته إلى الحداثة ضدّ موروثات التخلّف، وتنظيم العمران الفكري والنفسي للإنسان والجماعات. فتتحرّك الأمور بطريقة علمية. لكن كيف سينجح أيّ مجتمع مدني في تقبّل معايير الحداثة وبنائها، فيتطوّر ويزدهر في ظلّ مناخات الكبت والحرمان والإقصاء، وفي أنظمة اللااستقرار العربية، وعدم قابلية الناس على حلّ تناقضاتها سلميًا، ووسط الصراع على السلطة كملكيّة خاصة، والإختلافات على توزيع الثروات من دون إستثناءات كثيرة في التحالفات السياسية / الأمنية على تقاسم الحصص والمؤسسات.

المجتمع والثقافة العربيان بعيدان عن معنى الدولة الحديث ومعنى النظام في التداول السياسي والاجتماعي

لا يمكن أن يبخس من قيمة الدولة. فالدولة أسّ المجتمع والناظم لعلاقاته وتفاعلاته، وليست السلطة إلا من أوجهها المتعدّدة في التنمية والرعاية والأمن والتنظيم المدني والسيادة، ولا تنحصر في إحتكار العنف والإكراه والضغط، بل هي تنفيذ لإرادة عامة بموجب قوانين وضعيّة. فيجري احترامها في ضمانة الأمن والاستقرار، ووحدة الجماعة السياسية والمواطنة.

ما زال أمام العرب شوط لقطعه. المجتمع والثقافة العربيان بعيدان عن معنى الدولة الحديث، ومعنى النظام السياسي في التداول السياسي والاجتماعي، وحيث مكوّن ضعف الدولة يغذي ضعف المجتمع المدني مع ربط مستقبل أي حراك مدني بالتدخلات الخارجية، وليس التشريعات العامة في ظلّ أنظمة أبوية، وعوامل "الزبائنية" (أكثر بكثير من العوامل الطائفية والاثنية). في الإطار العام، تبقى الأفكار صحيّة في مواجهة التوتاليتارية السياسية، والمجتمع المدني يساعد المجموعات المختلفة في إيجاد توازن بين الاستقلال الشخصي ومتطلّبات الشكل الإجتماعي.

يؤدي المجتمع المدني دورًا مهمًّا في إضفاء الشرعية على مؤسسات الدولة، ولكي يكون ناجحًا عليه أن يدعم التعبيرات السلمية لهذه الهويات المتعدّدة، وليس العمل على أجندات غير مترابطة وخلافية. الفكرة ممتازة. لكن محفوفة بالمخاطر وتحتاج للعناية، حيث يتفشى الإحباط بسبب تآكل المجال العام في البلدان العربية وتهويمات الإعلام كوسائل في بيئات متقاذفة / سلطوية، لا تستخدم وسائل قانونية، وعلى حساب الوصول إلى الأفكار، وسلب كلّ ما يخصّ الناس لحساب مصالح خاصة وفاسدة. فتضرب الموروثات الإحيائية لمجتمع مدني كان ولا يزال منهجًا خاصًا لمصطلح بمعاني مختلفة: (الاجتماع المدني، التهذيب، الحوار، التسوية، العمل الأهلي، العمل التطوّعي، السلوك المدني، المصالح العامة، التعبئة ضد التهميش، إزالة التمييز والإجحاف، مواجهة السلوك غير المتمدّن في الحياة المعاصرة).

المجتمع المدني لا يستطيع القيام بعمله إلا في ظلّ حكومة عالمية 

حلّ لغز المجتمع المدني في الوطن العربي يقوم على فكرة إنه غير "مركب إضافي". لم يكن وسيلة للتغيير الاجتماعي والسلوك الديمقراطي ورؤية المجتمع العام، وتمكّن المواطنيين من حلّ اختلافاتهم وتصنيفها، وترجمة معايير وقواعد وسياسات تحتّم خضوع الدولة إلى المشاركة من مواطنيها من خلال التمثيل والثقافة المدنية.

تنهض نظريات المجتمع المدني على افتراض أنّ أعدادًا متزايدة من المشكلات هي عالمية، من مثل ربط التنمية بالديمقراطية بالاستقرار وحقوق الإنسان. من شأن تزايد مشاركة المجتمع المدني، وشبكات الضغط، تقديم إحتمالات مستقبلية. فالمجتمع المدني لا يستطيع القيام بعمله إلا في ظلّ حكومة عالمية (فيها الكثير من المصالح المختلفة). فكرة المجتمع المدني العربي تتحرّك في مجالات ضعيفة جدًا. ما العمل؟

يتوقّف الأمر على مفهوم المجتمع المدني المطلوب، ويمكن التركيز على ملء الفراغات السياسية بقضايا مدنية أخرى، ورؤية أخرى، لصالح تحرّك مدني تسوده الرحمة والمحبة واللاعنف، بما يضبط الصراع الاجتماعي، ويمنح فرصة المشاركة السياسية بشكل أقوى.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن