تلاقت أفكار تلك العقيدة مع أفكار المسيحية البروتستانتية، ونشأت ما يُعرف بـ"المسيحية الصهيونية" التي تؤمن بأنّ وجود إسرائيل أمرٌ حتميٌّ لتحقيق النبوءات، وأنّ "عودة المسيح" تتطلّب "عودة اليهود إلى الأرض المقدسة"، وبناء "هيكل سليمان" على أنقاض "المسجد الأقصى"، وأنّ كلّ دعم لإسرائيل هو "خدمة لإرادة الرب". ومن هنا ترى "المشيحانية" أنّ دعم إسرائيل وتسريع النبوءات واجب ديني على المسيحيين.
إبادة العرب لدى البروتستانتيين الإنجيليين "مُهمّة دينية"
ولعلّ الإشكالية الكبرى التي ترتبط بتلك الفكرة المزعومة أنّها تجعل قدوم هذا "المشيح" في أيامٍ تعجّ بالفوضى والدماء والفتن في العالم، وهو ما يُشكّل التهديد الأكبر الذي يواجه العالم؛ إذ إنّ عودة المُخلِّص اليهودي لا تتمّ إلا وسط الدماء والضحايا مهما كانت أعدادهم، وهو ما نراه اليوم من تطبيقٍ واضحٍ لتلك العقيدة المزعومة في أرض فلسطين لإعداد العالم لعودة المُخلِّص وإقامة المملكة الألفية والفردوس الأرضي.
سيطرة "المشيحانية" على صناعة القرار الأميركي
هيمنت أفكار "المشيحانية" على صنّاع القرار في الولايات المتحدة الأميركية، وتؤدّي دورًا كبيرًا في تشكيل هويتها، ورأى البروتستانتيون الإنجيليون أنّه على الولايات المتحدة الأميركية مساندة اليهود بكلّ قوة للسيطرة الكاملة على كل الأراضي الفلسطينية، فأصبحت إبادة العرب لديهم "مُهمّةً دينية". وظهرت في شكل الإيمان "المشيحاني" بربٍ توراتيّ لا يعرف التسامح، فهو سريع الغضب يقول لموسى: "والآن اتركني ليحمى غضبي عليهم وأفنيهم" (الخروج 32/1)، وهو رب الحرب: "الرب رجل الحرب" (الخروج 15: 3)، وهو إله المجازر والإبادات الجماعية "فقال الرب امحوا عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته، الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء لأني حزنت أني عملتهم" (التكوين 6: 7)، وهو لا يعرف صلحًا ولا سلامًا أو مسالمةً، ذلك أنه يقول: "وإذا رفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف، وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدنية، كلّ غنيمتها فتغتنمها لنفسك" (تثنية 20: 13).
وتُعدّ "المشيحانية"، وصِلَتُها بـ"صناعة القرار" في الولايات المتحدة، أحد أخطر التأثيرات الدينية على السياسة الخارجية، خصوصًا تجاه الشرق الأوسط. فـ"المشيحانية" ليست فقط تيارًا دينيًّا، بل أصبحت رافعةَ ضغطٍ سياسيّ تؤثر في قراراتٍ كبرى في السياسة الخارجية الأميركية، خصوصًا فيما يخصّ دعم إسرائيل. وأمّا التأكيد على أنه لا يوجد حقٌ للفلسطينيّين في أراضيهِم، فهو الوعد الحتمي الذي ارتضاه الله لليهود وِفق العقيدة التّوراتيّة.
وظهر تحالف سياسي - ديني قوي داخل أروقة صنع القرار الأميركية، فأغلب السياسيين هناك يعتمدون على أصوات الإنجيليين الذين يتبنّون الفكر "المشيحاني"، لذلك يتبنّون سياساتٍ تخدم "النبوءات التوراتية" كجزءٍ من أجندة داخلية.
إنّها مشيئة الرب!
من هنا نجد أغلب قرارات صنّاع القرار في أميركا نابعة من إلهامٍ ديني، وهي فكرة محورية لدى المسيحية الصهيونية، واستخدم عديد منهم في خطاباتهم لغةً توراتيةً إنجيليةً تتناغم مع خطاب المسيحية الصهيونية في الكثير من المواقف الخطيرة، وظهر بوضوح أنّ أغلب الرؤساء الأميركيين تبنّوا خطابًا يتماهى مع المسيحية الصهيونية، وهذا ما جعل سياساتهم الخارجية، بخاصة تجاه إسرائيل، تأخذ طابعًا دينيًّا "مشيحانيًا".
نتج عن ذلك توجيه القرارات المصيرية نحو مساندة إسرائيل من دون قيد. وتفسير التطوّرات الدولية من منظور "نبوءاتي"، وليس واقعيًّا سياسيًّا، والدخول في حروب باسم "الخير ضد الشر"، منها قول جورج بوش الابن (2001-2009) ذات يوم إنّها "الحروب الصليبية"، وأنّ الله قد كلّفه بـ"محاربة الشر" و"إحلال السلام" في الشرق الأوسط. ودعَم إسرائيل بلا شروط، ورفَض الضغط الجِدّي على إسرائيل في ملف المستوطنات، كما أغلق باب التسوية عندما وصف عرفات بأنّه "عقبة أمام السلام"، كما أعطى إسرائيل ضوءًا أخضر لتوسيع الاستيطان، وأعاقَ إقامة دولةٍ فلسطينيةٍ عبر تبنّي "خريطة طريق" من دون ضمانات.
الكثير من صنّاع القرار الأميركيين أدخلوا مفاهيم "نهاية الزمان" في السياسة
كما وجدنا دونالد ترامب ينقل السفارة الأميركية إلى القدس، عام 2018. ووصَفَه بعض القساوسة بـ"كورش الجديد" الذي يحقّق مشيئة الرب، وسُرَّ ترامب بذلك كثيرًا! وكلّ قراراته تدعم إسرائيل دعمًا مطلقًا.
كما أعلن مايك بنس، نائب ترامب في ولايته الأولى، وهو إنجيلي "مشيحاني" - أمام الكنيست: "إنّ إسرائيل لم تُخلق من خلال الأمم المتحدة، بل من خلال وعدٍ إلهيّ قديم"، وشجّع ترامب على نقل السفارة إلى القدس، وقال في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 2018: "نقل السفارة الأميركية إلى القدس كان لحظةً إنجيلية!".
كما أنّ الكثير من صنّاع القرار الأميركيين يؤمنون بأنّ السياسة يجب أن تسير وفق خطّةٍ إلهية، وأدخلوا مفاهيم "نهاية الزمان" في السياسة؛ فقد آمن رونالد ريغان (1981–1989) بالنبوءات الإنجيلية، وظهرت لديه رؤى "نهاية الأيام"، وتحدّث عن حرب "هرمجدون" وحدوثها في الشرق الأوسط، وقال: "أنا مؤمنٌ بأنّنا نقترب من نهاية الزمن، وفقًا لسفر الرؤيا".
ووجدنا وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس (2005-2009) تُكثر من الإشارات إلى "الخلاص الإلهي"، و"قدر الأمّة".
كما صرّحت نيكي هايلي، سفيرة أميركا في الأمم المتحدة: "سنمنع أيّ قرار أممي ضدّ إسرائيل لأنها تُمثّل قيمنا. وعطّلت أي محاولة دولية - كعادة كل السفراء الأميركيين في الأمم المتحدة - لمُساءلة إسرائيل عن جرائمها في غزّة والضفّة باستخدام الفيتو ضدّ أي محاولة لإدانة الاستيطان أو العدوان. وهو الأمر الذي يشجّع إسرائيل على المضي قدمًا في سياسات الاحتلال والتهويد والتهجير والإبادة الجماعية من دون خشيةٍ من العقوبات".
التأثيرات الخطيرة في السياسة الأميركية
نتج عن ذلك دعم غير مشروط لإسرائيل قائم على صناعة قراراتٍ غير عقلانية، أدّت إلى انتهاكاتٍ مستمرّةٍ للقانون الدولي والحقوق الإنسانية، مستندةً إلى تأويلات دينية. كما نتج عنها تهميش الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة في وطنهم، لأنّ وجودهم يتعارض مع "النبوءة" حسب الفكر "المشيحاني".
القرارات الأميركية مبنيّة على خطة الله لشعبه المختار و"تحقيق النبوءات" و"التحضير لعودة المسيح"
وتغلغلت "المشيحانية" في صناعة القرار الأميركي، عبر خمسة مستويات رئيسيّة:
- يتمثّل المستوى الأول في السيطرة الكاملة على قرارات الرؤساء باعتبار أنّ كلّ رئيس هو "مُرسَل من الله"، لتنفيذ خطةٍ سماويةٍ تصبّ في صالح "إسرائيل" بلا قيد أو شرط.
- المستوى الثاني هو القاعدة الشعبية الداعمة من الإنجيليين الصهاينة "المشيحانيين"، ويشكّلون نحو 70 مليون أميركي، وهم يشكّلون قاعدةً انتخابيةً قويةً، ويصوّتون بكثافة، ويضغطون على ممثليهم لتبنّي أجندة دينية - سياسية واضحة.
- أمّا المستوى الثالث فهو اللوبيات الصهيونية، وهؤلاء يموّلون الحملات الانتخابية، ويستضيفون سياسيين على منابرهم الدينية. وهي تربط بين "بركة الرب" للولايات المتحدة ودعم إسرائيل. وخرجت منهم مقولة شهيرة، وهي أنّ "كلّ رئيس يبارك إسرائيل يباركه الرب، ومن يعاديها يلعنه الرب."
"المشيحانية" من أخطر الإيديولوجيات التي ينبغي أن يواجهها العالم الحرّ بصفة عامة والعالم العربي بصفة خاصة
- ويتمثل المستوى الرابع في اختراق الخطاب السياسي والإعلامي واستخدام مصطلحات توراتية في الخُطب السياسية: مثل "أرض الميعاد"، و"شعب الله"، و"معركة هرمجدون"، وتشبيه الرؤساء أنفسهم بأنبياء أو ملوك توراتيين (مثل كورش).
- أما المستوى الخامس فيتمثّل في تحوّل المصلحة القومية إلى مصلحةٍ دينية، فبدلًا من أن تكون القرارات الأميركية مبنيّةً على الجغرافيا السياسية والمصالح الاقتصادية والقانون الدولي، تصبح مبنيّةً على خطة الله لشعبه المختار و"تحقيق النبوءات" و"التحضير لعودة المسيح".
ومن هنا، تُعدّ "المشيحانية" من أخطر الإيديولوجيات التي ينبغي أن يواجهها العالم الحرّ كلّه بصفة عامة، والعالم العربي بصفةٍ خاصةٍ في الوقت الراهن، لا سيما مع محاولات أصحاب الاتجاهات اليمينية بين اليهود المعاصِرين، تطبيقَ الأفكار "المشيحانية" على أرض الواقع بكلّ ما تحمله من تهديداتٍ جدّ خطيرةٍ لكلّ البشرية.
(خاص "عروبة 22")