الأمن الغذائي والمائي

حروب المياه وسلاح المياه!

تغطّي المياه العذبة العابرة للحدود 45% من مساحة أنهار العالم والتي تُمثّل 30% فقط من كوكب الأرض. وتُعرف بأنّها الأنهار والبُحيرات والمُسطّحات المائية التي تصل بلدَيْن أو أكثر، وطبقات المياه سواء فوق سطح الأرض أو تحت سطح الأرض كمياهٍ جوفية. وتُصنّف النزاعات بشأن تخصيص وتقاسُم الموارِد المائيّة وأيضًا تقاسُم الفوائد، على كونها معقّدة للغاية وأكثر صعوبةً في التفاوض والحسم، بحيث تتدخّل فيها السياسات الدوليّة حتّى من الدول البعيدة، وأيضًا النّزاعات التاريخية والحالية والخلافات السياسية سواء كانت بسبب المياه أو بغيرها، في تفاقم هذه الأزمات وصعوبة حلّها.

حروب المياه وسلاح المياه!

طبقًا لمعاهدة الأمم المتحدة للأنهار الدولية غير الملاحية الصادرة في 21 مايو/أيار عام 1997، عُرِّفَ المجرى المائي على كونه نظامًا من المياه السطحيّة والمياه الجوفيّة يُشكّل وحدةً كاملةً تتدفّق بصورةٍ طبيعيةٍ باتجاه مخرجٍ مشترك. أمّا المجرى المائي الدولي فيعني مجرًى مائيًا تقع أجزاء منه في دولٍ مختلفة. ويُعرّف الأمن المائي لأي دولة بأن "يكون لدى الدولة كمية كافية من المياه تكفي لإحداث تنميةٍ اجتماعيةٍ واقتصاديةٍ والحفاظ على البيئة".

نُدرة المياه وشحّها، والزيادة السكانية المطّردة ومتطلّبات التنمية والتحضّر، والاحترار العالمي الذي يزيد من فقد المياه بالتبخّر ويزيد من تلوّثها، وأطماع الدول والأعمال المخابراتية، والرّغبة في تسعير المياه وبيعها بشعار "المياه مقابل الأموال"، جميعها من العوامل الرئيسيّة لاندلاع صراعات المياه التي ربما تتحوّل إلى حروبٍ للمياه والتي قد تزيد من اشتعالها الحروب العسكرية إذا وقعت، لأنّها ستُحدث شرخًا في العلاقات بين دول النّهر الواحد قد لا يلتئم بسهولةٍ مع الزمن.

لا توجد حروب من أجل المياه عبر التاريخ ولكن هناك حروب استُغلّت فيها المياه في الحروب العسكرية

بشكلٍ عام ومن قديم الأزل، عرف العالم صراعات المياه سواء بسبب سيطرة القوّة أو عدم النّظام قبيل ظهور الذوق العام والتحضّر. مثلما ذكرت قصّة النبي موسى حينما أشارت اثنتان من بنات أحد الشيوخ الصالحين إلى أبيهما أن يستأجر موسى ليملأ لهما المياه يوميًا بسبب ما تتعرّضن له من مصاعب لسيطرة الرجال الأقوياء على منابع المياه، والتي تحتاج رجلًا قويًا مثلهم ليحصل منهم على المياه من دون إجحافٍ أو انتظارٍ طويل.

لم يكن اصطلاح "حرب المياه" معروفًا للساسةِ قبل مقولة الرئيس أنور السادات عام 1979، وما تلاها من تصريحاتٍ لوزير الدولة للشؤون الخارجية بطرس بطرس غالي، بأنّ الحرب القادمة في الشرق الأوسط وأفريقيا لن تكون حربًا سياسيةً أو من أجل الحدود، ولكن الحروب المقبلة ستكون حروبًا من أجل المياه. واليوم تزايدت الضّغوط والصراعات من أجل المياه القليلة في العالم والتي لا تزيد في مجملها عن 2.5% من إجمالي المياه في العالم، فمن هذه النسبة الضعيفة للمياه العذبة في العالم لا تزيد مياه الأنهار والبحيرات عن 0.03%، والباقي مياه عذبة مخزونة في جليد القطبَيْن الشمالي والجنوبي ومياه الفيضانات المُهدرة ورطوبة الترب الزراعية ثم المياه الجوفيّة التي يمكن الوصول إليها والاستفادة منها.

منع الماء عن الأعداء هو أحد الأسلحة القوية التي تُستخدم دومًا في الحروب أو تكون سببًا لها

يمكن القول إنّه لا توجد حروب من أجل المياه عبر التاريخ، ولكن هناك حروب استُغلّت فيها المياه، في العديد من الحروب العسكرية. وكان استخدام المياه كسلاح، مثل منع مرورها، كنوعٍ من أنواع الأسلحة التي عُرفت باسم "سلاح المياه"، والتي تُستخدم لإضعاف مجتمعٍ أو دولٍ وبالتّالي كانت أحد المفاتيح الأساسية لبدء الحروب بين الجيوش.

فقد أشار معهد بحوث الأطلنطي عام 2012 إلى أنّ منع الماء عن الأعداء هو أحد الأسلحة القوية التي تستخدم دومًا في الحروب أو تكون سببًا لها. وقد سجّل التاريخ ما بين عامَي 2450 و2400 قبل الميلاد في المنطقة التي تُعرف حاليًا بجنوب العراق، تحويل المياه السطحية بأوامر الملك "أورلاما" ملك مملكة لاجاش (على نهر الفرات) وبمساعدة ابنه قائد الجيوش، بهدف إخضاع جيرانه في مملكة "أومّا" وعاصمتها "جيرسو"، التي عُرفت وقتها بأنّها "حافة الجنّة" لكثرة خيراتها، وذلك في ما عُرف بحرب البابليين والسوماريين.

وخلال الحرب العالمية الثانية، كانت سدود المياه المُقامة على أنهار ألمانيا أهدافًا للمقاتلات البريطانية، التي وجّهت إليها ضرباتٍ عدّة لإحداث العديد من الفيضانات النّاتجة عن صنع الإنسان، وذلك لوضع عراقيل أمام تحرّك القوات العسكرية، وأيضًا تدمير بعض البنى التحية والاقتصادية والأراضي الزراعية ومخازن الغذاء والسلاح.

وبطريقةٍ مشابهةٍ أيضًا، في الصين وعلى النهر الأصفر عام 1938، أثناء الحرب العالمية الثانية، أمر الملك الصيني تشانغ كاي-شيك (Chiang Kai-shek) بتدمير سدٍّ للمياه قرب منطقة تشنغتشو (Zhengzhou)، لفتح المياه بغزارةٍ لإغراق آلاف الهكتارات وإيقاف تقدّم قوات الإمبراطورية اليابانية داخل الأراضي الصينية. وبطريقةٍ مشابهةٍ أيضًا، تمّ إغراق مناطق كبيرة من هولندا وسويسرا بمياه الأنهار لإيقاف زحف القوات النّازية إلى هولندا عام 1940. وردّت ألمانيا أيضًا بإغراق مساحاتٍ مماثلةٍ من أوروبا بالمياه لإيقاف قوات التحالف.

هناك أيضًا حالات مماثلة، سواء لاستخدام المياه السطحية أو الجوفية في الحروب لتحقيق أهدافٍ عسكريةٍ أو سياسية. ففي عام 701 قبل الميلاد، استخدم الملك جيمس بيبل سلاح المياه حين أغلق ومَنَعَ تدفّقات العيون المائية خارج أسوار مدينة القدس لمنع المياه عن قوات الأشوريين الذي كانوا يريدون إسقاط المدينة. ثم في عام 51 قبل الميلاد، قام يوليوس قيصر بتخريب الموارد المائية في وادي دورديجون في فرنسا وقام بردم العيون المائية ونشَر قواته على طول الأنهار في المنطقة لمحاصرة قوات جوليز. وفي عام 1187 بعد الميلاد، وأثناء الحملة الصليبية على القدس، وبسبب سيطرة الصليبيين على مدخل حطّين بالقرب من بحيرة طبريّة حاليًا، أمرَ صلاح الدين الأيوبي بقطع المياه عن مواقع الصليبيين وردم العديد من العيون والروافد التي تصل إلى مواقعهم. وأمر القرى المحيطة بمواقع الصليبيين بمنع إمدادهم بالمياه لحرمانهم من الماء، بل ودمّر خزانات المياه الخاصّة بجيوش الصليبيين الأمر الذي كان له الأثر الكبير في إنهاك جيوشهم.

هناك أيضًا تلويث وتعمّد تسميم مياه الشرب، والتي تعدّ من أسلحة المياه. ففي القرن السادس قبل الميلاد، قام الأشوريون بتسميم وتلويث آبار الأعداء بالفطريّات النباتية النامية على الحبوب العفنة، خصوصًا بفطر "الإرغوت" (Ergot) والذي ينمو بشدّةٍ على ألياف نباتات الخردل وحبوب القمح والشعير والأرز والذرة والشوفان، وينتج مواد قلوية سامّة والتي تؤثّر على الجهازَيْن العصبي والدوري، وتتسبّب بإصابة الجنود بالإسهال والهلوسة والشلل وبتر الأطراف وقد تؤدّي إلى الوفاة.

هل تأتي حروب المياه في الشرق الأوسط قريبًا أم أنّ قوة دول المنابع ستمنع نشوبها؟

هناك أيضًا إلقاء الجثث والجيفة في المياه العذبة وقد تكرّر كثيرًا أثناء الحرب الأهلية في تيمور الشرقية، وأيضًا أثناء الحرب الأهلية في أنغولا حيث تمّ العثور على 100 جثة ملقاة في الآبار المخصّصة للشرب.

بالمثل في الحروب الأهلية بين رواندا وبوروندي، تمّ إلقاء العديد من الجثث في روافد وأنهار النيل، بخاصة نهر "كاجيرا" المتّجه إلى بحيرة فيكتوريا منبع النيل الأبيض. هناك أيضًا قيام اليابانيين بتسميم مياه الآبار الخاصة التي استعانوا بها من جنوب أفريقيا بمياه المجاري ممّا أدى إلى إصابة جنود أعدائهم بالتيفوئيد والكوليرا وغيرها من أمراض الجهاز الهضمي.

فهل تأتي حروب المياه في الشرق الأوسط قريبًا، خصوصًا بين مصر وإثيوبيا، وبين العراق وسوريا ضدّ تركيا وإيران، وبين لبنان والأردن ضدّ إسرائيل؟ أم أنّ قوة دول المنابع ستمنع نشوب هذه الحروب من أجل المياه؟!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن